عندما ذهب الرئيس عبدالفتاح السيسى للاحتفال بالذكرى الثانية لثورة 30 يونيو لم نجد سوى أغانى عبدالناصر لتعيدها الفرق الغنائية، مما تعودنا أن نطلق عليه أغنيات (الزمن الجميل). الحقيقة أن تلك فقط هى الأغانى الوطنية التى عاشت، ولا تتجاوز 10% فقط من الحصيلة، والباقى كان عنوانا صارخا لوجه آخر لنفس الصورة، وهو نفاق الزعيم.
استعيدوا هذه (فرحت يوم عيد الثورة أكتر من يوم خطوبتى).. هكذا غنى عبدالعزيز محمود مستقبلا عيد ثورة يوليو، إنها واحدة من مئات الأغنيات التى انزوت فى الأرشيف، لأنها كانت أشبه بتوقيع موظف على جداول الحضور والانصراف، بعض الفنانين تعاملوا مع الغناء للثورة، باعتباره أداء واجب، لا تصدقوا كما توحى أغانينا، أن الكل كان متيما بحبها، تعودنا دائما أن نردد هذه المقولة التى صارت أقرب إلى «كليشيه» الأغانى التى قُدمت عن الثورة وإنجازاتها أو تغنت بجمال كانت تنضح صدقا.
قبل أيام قلائل مرت ذكراها 64، وكانت فرصة لكى تعيد الإذاعة المصرية بعضا من هذه الأغانى، القليل منها حفر مكانة خاصة فى مشاعرنا، سواء من عاش تلك السنوات أو تنسم عبيرها من الآباء والجدود.
كنت حريصاً أن أعطى أذنى وعقلى إلى الكلمة واللحن، المساحة الزمنية المتاحة لعرض هذه الأغنيات اتسعت على غير المعتاد، فاضطر القائمون على الخريطة الغنائية للبحث عن المجهول وغير المتداول، فكانت صدمتى كبيرة، لما تمتلئ به من رداءة فى التعبير واستسهال فى التلحين وأحيانا استهبال فى الأداء.
هل كانت الأغانى التى تتغنى باسمه ترضية؟ الإجابة التى يقبلها عقلى هى أن عبدالناصر أدمن الهتاف باسمه، لو أراد إيقاف هذا السيل المنهمر لأعطى تعليمات مباشرة بمنع تداولها، وفى تلك الحالة لن يجرؤ أحد، ورغم ذلك، وفى محاولة منى لرصد التاريخ الذى وصلتنى شذرات منه من قمم إعلامية ارتبطت بصانع القرار حاولت أن أجد إجابة.
أتذكر أننى سألت الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض، وكان الأقرب لناصر ومسؤولا عن حفلات (أضواء المدينة)، فقال لى إنه فى أحد الاحتفالات الوطنية التى حضرها الرئيس، لا أتذكر تحديداً إذا كانت السد العالى أم الثورة، كانت التنبيهات صارمة على الجميع وهى إياكم والغناء باسم عبدالناصر.
التزم عبدالحليم ونجاة ومحرم فؤاد وشادية ثم- وآه من ثم- جاء دور المطرب الكبير محمد الكحلاوى الذى كان كعادته يردد عددا من أغانيه الدينية والبدوية، وإذ(فجأة) غير فى كلمات إحدى أغنياته، وأضاف اسم ناصر ومن بعدها فقد جلال معوض السيطرة وانطلق الجميع يغنون باسم الزعيم، كما أن الإذاعى الكبير أحمد سعيد- أمد الله فى عمره- حكى لى واحدة أخرى تنفى عنه حرصه على أن يظل الأوحد، قال إنهم كانوا يهتفون باسمه- أقصد أحمد سعيد- فى العديد من الدول العربية، بمجرد أن يشاهدوه يقف بجوار الزعيم، لا تنسوا أننا نتحدث عن الخمسينيات وقبل هزيمة 67، وفى تلك السنوات كانت إذاعة صوت العرب التى رأسها (سعيد) هى حُلم العرب، وصوته ينافس فى قلوبهم صوت أم كلثوم، وكانوا يطلقون على الراديو (صندوق أحمد سعيد)، باقى الحكاية أن البعض أوعز إليه بأن الزعيم سيغضب، وربما يقصيه عن موقعة، ووصلت الوشاية إلى ناصر فطيب خاطره قائلا له: إن الهتاف باسمه يسعده!
لا أتشكك بالتأكيد فى رواية الكبيرين الرائعين، معوض وسعيد، ولكن تعقيبى على الأول لو كان ناصر جادا فى الرفض، فمن يعصى أمرا للزعيم؟! والدليل أننا بعد 67 لم نغن باسمه، لأنه أراد ذلك، ولكن بعد الرحيل الذى هز القلوب لأننا كنا نعتقد فى الضمير الجمعى أن توقف قلب ناصر هو المعادل الموضوعى لتوقف قلب مصر، رفضنا موته لأنه موت للوطن فرددنا اسمه، وللعلم السادات بعد عام أصدر أوامره بمنع تداول تلك الأغنيات، الحكاية الثانية أنه لم يغضب من الهتاف لأحمد سعيد، ولكن هذا لا ينفى أنه أراد أن يكون الأوحد والدليل أنه مسح تماما اسم محمد نجيب من الذاكرة، فلا وجود لآخرين فى الصورة بجوار الزعيم.
هل استمعتم إلى أم كلثوم على مدى ساعة كاملة تردد (حققنا الآمال/ برياستك يا جمال/ بعد الصبر ما طال) وتعيد وتزيد عشرات المرات فى هذه الكلمات الركيكة ونكتشف أن الذى كتبها هو زجال مصر الأول بيرم التونسى بأنغام عملاق الموسيقى الشرقية رياض السنباطى، أو عندما تتغنى أم كلثوم بكلمات شاعرنا الكبير عبدالفتاح مصطفى بتلحين السنباطى (الزعيم والثورة وفوا بالوعود/ لسه دور الشعب يوفى بالعهود)، إنه يبرئ ساحة الزعيم ويدين شعب بأكمله، بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم عبدالناصر كانت مجرد هراء وخوف من السلطة، لا يمكن أن أصدق مثلاً أن (إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب) لصلاح جاهين وكمال الطويل أو «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، أو أحمد شفيق كامل، وهو يقول (ضربة كانت من معلم/ خلى الاستعمار يبلم) لا أصدق أنها أغنيات كاذبة، لدينا بالتأكيد أغنيات عبرت بصدق عن المشاعر الوطنية، ولكن لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم ناصر أو جمال ثم يضيف أى كلمات على الوزن والقافية ليكمل، والرئيس استحسن ذلك، ربما فى مرة قال كفاية، إلا أنه لم يصر عليها.
عندما سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل وهو على الأقل صاحب 90% مما ردده «عبدالحليم حافظ» من أغنيات وطنية، أجابنى بأنه لم يشعر ولو لحظة واحدة أنه يلحن لجمال ولكن للوطن، انتهت كلمات الطويل، إلا أننى أضيف بأن هناك من غنى بقناعة، وهناك من غنى خوفا من الفزاعة، وما تبقى هو تلك الأغنيات التى قدمت بإحساس وبالتأكيد تحتل أغنيات الطويل وجاهين وحليم النصيب الأكبر منها.
الآن تجاوزنا كشعب تلك المرحلة التى أشبهها بالمراهقة فى حياة الانسان، مغفور فيها الكثير من الانفعالات المتطرفة حبا أو كرها!!
الرئيس عبدالفتاح السيسى كان، ولا يزال، وأرجو أن يظل حريصا على ألا يسمح بالغناء باسمه، مقولته الشائعة عندما يهتفون باسمه فى أى احتفال هى (تحيا مصر)، شعبولا فعلها ولكن لا أحد يعيره اهتماما.
مؤسسة الرئاسة أدركت أو هكذا أظن أن جينات النفاق عابرة للأجيال، وأن مطربينا على استعداد للهتاف فى كل لحظة باسم الزعيم أى زعيم، تغنى مصطفى كامل فى (تسلم الأيادى) بالسيسى والصورة المصاحبة للنشيد أشارت مباشرة له، ولكن لم يسمح له بالتكرار.
وهكذا أوصد الباب بالضبة والمفتاح، ورغم ذلك أرى محاولات للنفاذ من تحت عقب الباب، آخرها أن عددا من الأغانى التى قُدمت فى احتفال 30 يونيو تتغنى صراحة بناصر، كان المطربون حريصين على أن يشيروا بأصابعهم للسيسى، بينما الكاميرا تتوجه إليه مبتسما، ولكن هذه قصة أخرى!.