عزيزي القارئ؛ مساء الخير.. لو كنت من الجالسين في مدرجات الإخوان الهائمين عشقًا وحبًا في الخليفة المزعوم، فلن تكبح الكلمات المكتوبة أدناه جماح رغبتك، وإن أنت بمدرجات الكارهين لأردوغان، فتحسس بطحتك ولا تفرح كثيرًا مما هو آتِ.. أما وإن كنت من هؤلاء القابضين على عقولهم كالجمر في وسط يعج بالمجاذيب والمجانين، فأكمل.
بادي الكلام.. لا يمكن النظر إلى ما يجري على أرض السلطان العثماني الآن من جنون بمعزلِ عن الخلفية السياسية المكونة لأردوغان الحالم باستعادة إرث جده محمد الفاتح، وكم التحولات التي طرأت على مسيرته السياسية بدءًا من انضمامه لحركة الفكر الوطني إلى ما هو عليه الآن.
يقول المثل الشعبي: «ع الأصل دور»، وقديمًا سُئل رجب طيب أردوغان من إخوانه في حزب الرفاه حين كان مرشحًا لبلدية «باي أوغلو»: لماذا تغيرت؟! وكان الرجل بدأ يأخذ اتجاهًا شاذًا حينها عن توجهات حزبه، وتعليمات أستاذه نجم الدين أربكان، فرد عليهم: «أنا لم أتغير.. أنا تطورت»!
كانت حينها الغاية الانتخابية والسياسية لدى أردوغان الطامح تبرر وسيلته وطريقه للوصول إلى سدة الحكم، وإن كانت مخالفة في أحيان كثيرة لمبادئه، وتوجهاته باعتباره رجل دين، وخريج مدرسة الأئمة والخطباء، ومن ذلك في 1989م.. ورد اتصال تليفوني من أحد أعضاء حزب الرفاه، رواه فيما بعد أردوغان:
- «وا حسرتاه.. لا سامحك الله، انظر في أي قاعِ سحيق ألقيت بنا.. ماذا ستقول غدًا لربك يوم المحشر؟»
- أردوغان: «أيها الشيخ إهدأ قليلًا.. ودع أذنيك تسمع ما تنطق به، ماذا فعلنا نحن؟!»
- «وماذا ستفعلون أكثر من ذلك؟! جمعتم العاهرات واحدة بعد الأخرى، ثم جعلتموهم يوزعون أوراق حزبنا وملصقاته في حملتك الانتخابية.. ماذا أقول للجماعة وبأي وجه سأخرج للشارع بعد هذه الفضيحة؟».
- أردوغان: «سيدي الشيخ إنك تتحدث وتكيل الاتهامات من دون علم.. عيب عليك، هؤلاء الفتيات طالبات جامعيات، وكلهن في مرتبة أخواتنا وبناتنا.. ستتكشف لك الأمور مستقبلًا». لكن المتصل كان قد أخذه الغضب مأخذا كبيرًا.
حسن دندر، الصديق الشخصي لأردوغان يزيد من الشعر بيتًا: «كنا في إحدى الجولات الانتخابية داخل خمارة!- لاحظ التحول في شخصية أردوغان- وكان السُكارى يأتون إلينا فيحضنوننا ويقبلوننا، وكنت أبتعد عنهم خشية أن يلطخني لِعابهم، إلا أن أردوغان كان ينحني عليَّ، ويقول: «تحمَّل تحمَّل..!».
شئت أم أبيت.. عن حبِ أو كراه، وبإعجابِ أو نفور، فإنك تتابع أخبار أردوغان وتهتم بشؤونه سواءُ تراه «خليفة» أو «قردوغان».. ومعركة مؤيدي جنون الرجل ومعارضي قمعه على طريقة «ردح الستات» الدائرة رحاها هذه الأيام خير دليل.
و«من شب على شيء شاب عليه».. فكما تغيرت مبادئ الرجل أو قُل نظرته للنساء غير المحجبات والعاملين بالخمارات وروادها في مقتبل حياته السياسية، تغيرت نظرته أيضًا للقضاة على طريقة «لما أكبر هضربهم»، فاعتقل منهم 3 آلاف قاض، وضيق الخناق على مؤسسة القضاء بأكملها.
بأي حالِ لا يمكن تجريد المجزرة الأردوغانية بحق القضاة من جذور الخلاف التاريخية بين الرجل ومؤسسة القضاء، حين أسقطته من رئاسة بلدية أسطنبول الكبرى، وأدخلته السجن في أبيات شعر، وطالب النائب العام لأنقرة بإعدامه، وأسقطته من الرئاسة العامة للعدالة والتنمية، وطبقت عليه الحظر السياسي، قبل أن يُعدل الدستور ويصير رئيسًا للوزراء!
عزيزي المؤيد، والمبارك بالعشرة وعلى الصداق المسمى بينكم لإجراءات الرجل الجنونية.. قبل التأييد اعرف أن المساس بالقضاء بحسب رأي أردوغان الشخصي عندما كان حزبه ضحية انقلاب 28 فبراير- «انقلاب ما بعد الحداثة»- تعسف وديكتاتورية!
وأنه وقف في شعبة إسطنبول بعد الإطاحة بحزبه صارخًا: «علينا حماية دولة القضاء بكل ما أوتينا من قوة، وأن نقف معًا ضد من يستبيح حرمتها.. لا يمكن أن تكون هناك جمهورية في غياب القضاة، هؤلاء- يقصد الانقلابيين- يضيقون على القضاء بحجة حماية الجمهورية».
وأنه عندما صدر قرار سجن أردوغان بضعة أشهر بتهمة إلقاء أبيات شعر تحض على الكراهية؛ خطب الرجل في حشد جماهيري: «إن الديمقراطية تعني استقلالية القاضي والقضاء، وتصبح الديمقراطية نظامًا ديكتاتوريًا مستترًا خلف مظهر ديمقراطي إن جعلت القضاء آلة في يد الساسة».
لكن المتابع للرجل بعيدًا عن المجاذيب والمجانين، يعرف أنه بلا كتالوج، وليس ثابتًا على مبدأ أو لتقل على أق تقدير: موقف، لكنه ذكي بقدر تحقيقه احتياجات الأتراك الاقتصادية التي جعلته يغض الطرف عن العملية التأديبية الواسعة للمتهمين بالتورط في الانقلاب العسكري من شتى مؤسسات الدولة.
وفي لقاء مع قناة «شو تي في» ببرنامج اليوم الثاني والثلاثون، عرف أردوغان نفسه ردا على سؤال أحد الطلاب: «أنا مُسلم مُخلص»، ولم يقل لا أنا ديمقراطيًا ولا حتى علمانيًا.. وعندما حلّ على «الإخوان» في مصر، طالبهم بـ «علمنة مصر» بدلاً من مشروع «الأسلمة»!
وبالنظر إلى الرجل، وتصرفاته.. لا تعرف إن كان سطانًا عثمانيًا أم رئيسًا ديمقراطيًا، ولا حتى إن كان خليفة للإسلاميين أم رئيسًا للعلمانيين، ناصرًا لفلسطين أم داعمًا لإسرائيل، مُكافحًا لإرهاب «داعش» أم مُتاجرًا في نفطه.
والحقيقة أردوغان يكون حيثما تكون مصالحه لا مبادئه، وبالطريقة والكيفية التي تحقق تلك المصالح، ولا أدل على ذلك من أن «أردوغان الذي كان يعيش ضحية لانقلاب 28 فبراير، ليس هو نفسه جلاد انقلاب يوليو 2016»!