x

«المصرى اليوم» ترصد مخاوف الأهالى وأحلامهم: المدابغ تودّع سور مجرى العيون

الأربعاء 20-07-2016 22:52 | كتب: آلاء عثمان, مي هشام |
المصري اليوم مع أصحاب المدابغ المصري اليوم مع أصحاب المدابغ تصوير : أيمن عارف , أسامة السيد

1066 مدبغة جلد طبيعى، تقوم عليها صناعة دباغة الجُلود فى مصر القديمة، خلف سور مجرى العيون، حسب إحصاء غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات المصرية. وفى حين واصلت مصر القديمة بقلب القاهرة احتضان دباغة الجلود لعقود، تستعِد المنطقة لتوديع «المدبغجية» فى غضون شهور قليلة إلى مدينة الجلود المتطوّرة بالروبيكى بمدينة بدر فى طريق السويس.

وبحسب وزارة التجارة والصناعة، فإن 95% من أعمال الإنشاءات بالمرحلة الأولى بمدينة الروبيكى تم الانتهاء منها تمهيدًا لبدء عمليّة النقل، فى غضون أيام. وقد تركت وزارة التجارة والصناعة الاختيار «للمدبغجية» فى تحديد مصائرهم، سواء الانضمام لمدينة الجلود النموذجية بالروبيكى، أو اعتزال الصنعة والحصول على تعويض مقابِل إخلاء المدابِغ القديمة. وقال محمد حربى، رئيس غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات، إن 80% من أصحاب المدابغ تقدموا بأوراقهم إما للنقل أو الحصول على تعويضات، إلا أنه فى غير السياق الحكومى، وتحديدًا على الأرض فى المدابِغ القديمة، يجرى فصل من معاناة «المدبغجية» ترصده «المصرى اليوم».

يستغرق الانتقال من وسط القاهرة إلى مدينة «بدر» الواقعة على طريق (القاهرة- السويس) الصحراوى نحو ساعتين، يتنقل خلالهما المُسافر ما بين وسيلتى مواصلات على الأقل تصل تكلفتهما 10 جُنيهات، تكثر الأقاويل بمجرد الوصول للمدينة والتساؤل عن كيفية الوصول إلى «الروبيكي» المنطقة الصناعية التى باتت تُعرف اليوم بـ «المدابغ الجديدة»، يُرشح البعض «توك توك»، فيما يؤكد آخرون أن القرار السليم للوصول هو التوجه إلى أقرب «ميكروباص» فى طريقه إلى مدينة العاشر من رمضان، يقتنص ذاك 3 جُنيهات أخرى ليترك مُحررتى «المصرى اليوم» فى منطقة صحراوية قاحلة، خالية من مظاهر العُمران، ضعيفة الكثافة المرورية.

المصري اليوم مع أصحاب المدابغ

على الطريق الصحراوى تهتدى الخُطى بلافتة يتجاوز طولها المترين، تُقرأ: «مشروع مدينة الجلود بالروبيكى»، خلف اللافتة تظهر قمم عدد من «الهناجر» الزرقاء المُتقاربة. أمام البوابة، يضطلع أحد أفراد الحراسة بالخروج من المقطورة بين الدقيقة والأخرى لرفع حاجز السيارات ليسمح لأحد المُهندسين بالمرور للداخل، فالعمل بالداخل يدورعلى قدم وساق: «ثلاث دوريات مُتصلة»، يعلل أحد أفراد الحراسة التابعين لشركة مقاولات كُبرى أن تلك الحركة المُستمرة إنما تعكس النشاط داخل أرض المشروع الذى يوشك على الاكتمال، بعد إنهاء الإعدادات الخاصة بالمياه والكهرباء لتُصبح «الروبيكى» فى أقرب فرصة جاهزة لاستقبال أرباب «الدباغة» ليستأنفوا العمل فى مدينة صناعية متطورة «حسب توجيهات السيد الرئيس».

ضوء رئاسيّ أخضر أعاد الحياة والنشاط لمشروع النقل طويل الأمد، فى أواخر فبراير الماضى، وتحديدًا فى الثامن والعشرين منه، فى إطار مؤتمر «رؤية مصر 2030» بمسرَح الجلاء، صرّح الرئيس عبد الفتاح السيسى، أنه وجّه لتخفيض المُدة الزمنيّة التى ربطتها الحكومة للانتهاء من مدينة الجلود المتطوّرة بالروبيكى، من ثلاث مراحِل، إلى مرحلة واحِدة فقط، فى حين حمل بيان رئاسيّ أصدّرته مؤسسة الرئاسة فى منتصف شهر مارس، تصورًا أوضَح عن المدى الزمنيّ لعمليّة النقل المرعيّة رئاسيًا، مُعتمدًا منتصف العام الجارى، موعِدًا نهائيًا للانتهاء من تجهيز مدينة الجلود المتطورة بالروبيكى، استعدادًا لاستقبال مُعدات وِرش دباغة الجلود وعُمالها، الكائنة خلف سور مجرى العيون بمصر القديمة.

المصري اليوم مع أصحاب المدابغ

من المقطورة سالفة الذكر يطول حديث أفراد الأمن عن تطور المشروع على مدار 12 عامًا على أرض الروبيكى، وهو عمر تخصيص الأرض للمشروع، فالحركة لم تدب فى أركان الموقع سوى منذ أشهر معدودة، تمكن خلالها الفريق التنفيذى من قطع شوط ملحوظ فى العمل ببناء «الهناجر» زرقاء القمم، فضلا عن تأسيس عدد من المتطلبات الرئيسية، كنقطة شرطة ووحدة مطافئ ومستشفى.

يتحفظ المُهندس كمال منصور، مدير المشروع، على الإدلاء بأى تصريحات إعلامية عن موعد التسليم المتوقع، بناء على تعليمات وزارة التجارة والصناعة، على حد قوله: «الوزارة قررت تعمل قناة واحدة للتصريحات الإعلامية منعًا للبلبلة». تُغادر «المصرى اليوم» مكتبه دون الحصول عن معلومات ميدانية دقيقة، إلا أن التعثر فى الأراضِى الرملية فى طريق الخروج والتى لا تزال تكسو أرضية بعض الهناجر إنما يشى بأن العمل لايزال مُستمرا.

بوابة من الصاج يشتمل عليها القسم الأكبر من واجهة مدبغة كُبرى تُشرِف على سور مجرى العيون، تُفتح ليخرُج منها عم عِزت، مُلاحِظ عُمال خمسينى، وبعض العاملين المناوبين على براميل الدباغة العملاقة فى فترة الإجازة، يُرشِح عِزت أن تعود أجواء النشاط للمدابِغ بحلول الثلاثاء، بعد عودة العمال من إجازتهم السنوية، حيث يعتبَر عيد الأضحى موسم عمِل بدوامٍ مُكثّف لعمال المدابغ، الذين تنتعِش صناعتهم بجلود الأضاحى، فيما يُفتى عِزت بحدود معرفته عن عملية النقل المزمعة، إذ تؤمن بيانات غُرفة دباغة الجلود التابعة لاتحاد الصناعات المصرية التى تُطبع من حين لآخر وتوزَّع على الدباغين متابعتهم لآخر تطوُرات المفاوضات الثنائية بين الغرفة والحكومة بشأن عملية نقل المدابِغ. يقول عزت إن عملية النقل ستتم على ثلاث مراحِل، ستكون الأولويّة فيها للمدابغ المشرفة على السور، لتتدرّج عمليّة النقل بعد ذلك للمدابغ الأعمق.

المصري اليوم مع أصحاب المدابغ

يتوقّع محمد حربى، رئيس غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات، فى تصريحاتٍ لـ«المصرى اليوم»، أن تستمر عملية نقل المدابِغ على مدى عام من تاريخ تخصيص الوحدات فى يوليو 2016، لتكون المدابِغ قد نقلت بالكامل فى يوليو من 2017، مرشّحًا أن تبدأ عملية حلّ الماكينات وإخلاء الورش بمصر القديمة والنقل إلى مدينة الروبيكى فور صدور أذون التخصيص، فضلاً عن إخلاء الورش التى فضّل أصحابها الحُصول على تعويضات وترك الصنعة بمجرد استحقاق صرف التعويضات «الحكومة هتيجى تقول له مستنّى إيه، اتفضّل يلّا اخلى الورشة».

يقص الهمس المُتصاعد بالكاد من شدة الضوضاء التى تُحدثها «براميل» الدباغة، بين الورش المُتناثرة فى المنطقة ذاتها رواية مُختلفة، حيث يشتبك العمال وأصحاب المدابغ فى مُناقشات مُستمرة فى الطرقات بعد انتهاء موسم الإجازة: «هتنقل ولا تاخد تعويض؟» يميل أحدهم تجاه قرار التحصل على تعويض، يُبادره آخر بنبرة تهكم: «لو سويت تعويض هيطلعوك مديون». لا يشترك عم «زينهم» فى المُناقشات المُشتعلة إلا نادرًا، يجلس بهدوء قرب براميل مدبغته فى غرفة خاصة مُستأجرة من مدبغة أخرى، يتابع العمل ويستقبل الضيوف والتجار على مقعد خشبى متواضع، من أصل أعوامه الـ67 أمضى «زينهم» 45 عامًا فى المدابغ، لذلك يُعلن قراره بالانتقال إلى الروبيكى بثبات: «إحنا هنعمل أى حاجة علشان نحافظ على شغلنا».

عاصر «زينهم» مشروع نقل المدابغ من بدايته، بل قبل أن يستقر الموقع الجديد على مدينة «الروبيكى» على حد وصفه، فالعديد من المناطق رُشحت سابقًا لاحتضان المدابغ بديلة عن منطقة مجرى العيون يُعدد من بينها البساتين، ثم شق الثعبان، ثم 6 أكتوبر، لحقتها مدينتا الشروق وبدر؛ ليتم الاستقرار نهائيًا على «الروبيكى» إلا أن إتمام خطوات فى طريق النقل هذه المرة باغت الصُناع على حد وصفه: «قبل كدا كان كله كلام، دى أول مرة نشوف تنفيذ».

وعلى الرغم من اتخاذه بالفعل قرار الانتقال إلا أن «زينهم» يُشفق من المصروفات والتكلفة المادية المُقبلة على مشروعه، تبدأ تلك مع ماكينات العمل الأساسية أو «البراميل» والتى تُنفذ عملية دبغ الجلود بالمواد الكيميائية، أغلب ماكينات «زينهم» مُعرضة للانهيار أثناء عملية الفك والتركيب خلال الانتقال إلى مدينة الروبيكى. من مجلسه يُشير الكهل لأحد البراميل الخشبية الكبيرة فى حرم المدبغة: «البرميل دا عمره 15 سنة، لو اتفك مش هيرجع يشتغل تانى 70% من المكن مش هيشتغل».

«الحكومة بتعاملنا كمستثمرين» يطرح «زينهم» سعر المتر بالروبيكى كعامل مؤرق آخر، حيث يتراوح ما بين 2300 إلى 3000 جُنيه، فيما يصفه بـ«الأسعار الاستثمارية» وليس أسعارا للصُناع الصغار والمتوسطين، رغم تألق وندرة حرفتهم: «اللى يقولك الدباغة بتخسر كذاب»، يُلخص وجهة نظره فى حال «الصنعة» اليوم قبل شد الرحال إلى صحراء بدر، دون أن يغفل إيضاح الجوانب السلبية: «مشكلتها بس فى الورق»، أى الشيكات والضمانات المالية المُتبادلة ما بين التجار وأصحاب المدابغ ومُستأجرى الجلود، حيث يندر وجود سيولة مادية نقدية فى العمل، بل مُستندات آجلة بالمبالغ المُستحقة يتم تحصيلها بالتنسيق مع التجار الآخرين.

يخشى «زينهم» أن يزيد تعقد الموقف بعد تكبده ديونا قد تتخطى مليون جُنيه مصرى للحاق بركب التطور: «بسعر المتر وتركيب المكن، أنا هفضل مديون طول عمرى، ابنى هييجى من بعدى يلاقى الورشة مديونة.. هيسيبها»، يخشى الأب على بوار مهنته دون أن تحظى بالدعم المُستحق، ما سوف يؤدى بعد تساقط الورش الصغيرة والمتوسطة على حد وصفه خلال عملية الانتقال إلى حالة احتكار من «الكبار» ممن لا يتجاوز عددهم العشرات لسوق الجلود، رغم ذلك مازال يرغب فى خوض التحدى بمُساندة تسهيلات حكومية: «أنا محتاج اللى يدينى زقة».

يُشرف «حسن الأبيض» على مدبغة متوسطة توارث أفراد عائلته إدارتها منذ عشرات السنوات؛ إلا أن عمله اليومى لا يتوقف على مُتابعة العُمال وتقييم سير العمل: «أنا ماكبرتش وبقيت أسطى علشان أقعد»، تجد حسن يُشارك عماله مهامهم ببساطة، يُدير بنفسه ماكينة لتعديل سُمك الجلد، تتكاثف حبات العرق على جبهة الشاب الثلاثينى كأغلب الحضور، يشترك معهم أيضًا فى مخاوف وهموم مُغرقة حيال النقل إلى الروبيكى، حيث بدأت أصداء الأزمة فى التأثير على عمله منذ 4 أشهر على وجه التحديد، حيث عزف بعض التجار والصناع عن إتمام العمليات التجارية «بالورق» أملاً فى تصفية ارتباطاتهم المادية قبل الانتقال إلى الروبيكى، لذا اختفت الشيكات من السوق ومعها فرص السداد اللاحق، ما أدى إلى نيل الكساد من المدابغ التى تعتمد فى عملها على تناغم وتعاون تام فيما بينها.

استأجر «الأبيض» جزءا من مدبغة العائلة لحسابه الشخصى، أعاد تأسيسها على طراز حديث، دعمها بشبكة الكهرباء المطلوبة، مصدر دائم للماء الضرورى للدباغة، كذلك عدد من «البراميل» الحديثة نسبيًا، كلف ذلك الشاب ما يتخطى 300 ألف جُنيه مصرى، يستعد الآن لترك كل ذلك خلف ظهره: «لو فكرت آخد تعويض، على الـ60 متر إيجار مش هاخد أكتر من 14 ألف جُنيه». يُحاول الشاب أن يحسب احتمالات وضعه الجديد خاصة بعد أن ترامت لمسامعه شائعات أن المساحة/ التعويضات المُخصصة للمستأجرين لن تتجاوز حاجز 30% من أصل أرض المدبغة المُستأجرة.

يؤكد الشاب أن السواد الأعظم من «المدابغية» أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة لا يرغبون فى الانتقال للروبيكى، وستؤدى الضغوط المادية لتداعى بعضهم وعدم قدرته على الاستمرار فى المهنة: «لو عاوز تنقل؛ انقل بما يُرضى الله»، يقولها ويشير إلى الشروط التى وضعها «المدابغية» سابقًا بالتعاون من غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات لإتمام عملية النقل: «لو عاوز تنقلنى يبقى النقل عليك، والمكان عليك ويكون فى هناك بنية أساسية كاملة وميه كافية تغذى المدابغ، دى أهم حاجة».

يرى «الأبيض» أن أياً من هذه الشروط لم يُنفذ، يرى تخاذلاً كذلك فى أداء غرفة دباغة الجلود لدورها: «زمان أيام والدى، وجدى، كانت الغرفة متواجدة، بتجيب مواد خام ومكن للمدابغ بأسعار رخيصة، بتقدم الفلوس اللى بتيجى دعم للصناعة من بره، دلوقتى مش بنشوف حاجة».

على سور مجرى العيون الأثرىّ من الخارج، كُتبَت عبارة لم يتنّبه لها بعد مسؤولو التنسيق الحضارى لمدينة القاهرة، تقول الجُملة المرشوشة بخط مرتعش «لا لنقل المدابِغ»، لتحيل إلى احتجاج عُمالى محدود، جاء فى صورة وقفة احتجاجية فى 22 مارس 2016، تمت السيطرة عليه سريعًا من قِبل القائمين على قسمى شرطة الخليفة ومصر القديمة ومُنع العمال من التجمهُر أمام مستشفى 5٧357 «لدواعٍ أمنيّة»، لتتواصَل دورة العمل داخِل المدابغ فى وقت النقل الضائع، بينما تظَل خطط العُمال الذين فضّل أصحاب الورش التى يعملون لديها أن ينضموا لصفوف الحاصلين على التعويضات بديلاً عن الارتحال إلى الروبيكى المستقبلية غير واضِحة المعالِم، فى حديث غائِم عن الفوضى الوطنية للتأمينات الاجتماعية، والتى تجعلهم فى ظرف نقل كهذا «على كف عفريت»، على حد تعبير أحد العُمال.

يواصِل محمّد فاروق فى أول أيام العمل بعد إجازة عيد الفطر «خدمة الجِلد»، كتخصص استمرّ على مدى أكثر من ثلاثة عقود من عُمره يمارِسه فى مدابِغ مصر القديمة، امتدت من سنواته الأولى، عمِل فيها على تطهير الجلود الحيّة بكافة الحيَل الكيماوية التى تعلمها، ليتقاطع تخصصه مع مجموعة من الأحماض وماء النار والأًصباغ، يضيفها بمقادير مُحددة لبراميل الدبغ الخشبية العملاقة، لتدور مع الماء وجلود الماشية تحت عينه وإشرافه، وبالرغم مما قد يحتوى عليه عمل فاروق اليومى من مخاطرة أن تجِد محتويات البراميل الحارقة طريقها لأحد أعضاء جسمه مُخلَفةً تشوهاً أو عاهة مستديمة، إلا أنه غير مؤمّن عليه حتى اليوم.

بعد يوميّات فاروق العامِلة، ومن تاريخ البتّ فى أمر نقل المدابِغ، أصبح لديه طقس شبه يومى للبحث عن عمَل، يقول فاروق: «بعد 30 سنة رُحت البلديّة عشان أقدم على الشغل فى النضافة، قالوا مش عاوزين كناسين، لكن سِبت اسمى أما يطلبوا، وبدوّر فى شركات الأمن، وكنت اشتغلت فى مطعم أحد المستشفيات، لكن بيدّوا يوميّة 3 جنيه.

يُشاركه شاب آخر يعمَل بالورشة، الملحوظات الفنية، يقول أحمد «أرض الروبيكى رمليّة، والمكن بتاعنا تقيل مش عادى، المكن هنا بيتوزِن بالأطنان، قبل نقل المكن الأرض هبطت أصلاً، لازملها صبّة خرسانة عشان تتحمِل المكن زى هنا»، غير أنه لا يُشاركه فحسب الملحوظات الفنيّة، حيث يحُثه فاروق على ذكر تجربته فى العمل فى إحدى المدابِغ الكُبرى، والتى لا يُعتبر عُمالها أفضَل حظًا، ليقول أحمد «اشتغلت 13 سنة فى مدبغة من المدابِغ الكبيرة، صاحب الشُغل كانوا بتوع التفتيش على تأمينات العُمال بييجوا يقعدوا فى مكتبه يشربوا الشاى ويروحوا من غير ما يعدوا العمال أو يعرفوا مين متأمِن عليه ومين لأ»، الأمر الذى لا يضمن، حسب أحمد، لأى عامِل دباغة ألا «يروح فى الرجلين» إذا لم تُناسِبه عمليّة النقل، فيما لا يُعَد خيار «تسوية المعاش» من بين الرفاهيات المُتاحة لعُمال المدابغ، غير المؤمّن على القسم الأكبر منهم.

يتساءل يحيى، أحد عُمال المدابِغ الذى درَج فيها من أكثر من ثلاثين عامًا، كمتوسِط سنوات خِبرة العامل الأربعينى فى المدابِغ، الذى يبدأ فى العمل منذ سن العاشرة، عن الخيارات المُتاحة لعامِل فى مثل ظروفه، لديه 4 أبناء يطعمهم من اليوميّة التى يحصُل عليها بصفة وديّة من صاحِب الورشة التى يعمل بها بدون عقود أو تأمينات شأنه شأن السواد الأعظم من عُمال المدابِغ، ويسكُن بالقُرب من مصر القديمة كمحل سكَن أصبح غير مُلائم فى ظل نقل منطقة عمله إلى أطراف القاهرة تحتاج ميزانية منفصِلة لوسائل المواصلات، تأكُل من قوت الأولاد ما شاء الله لها أن تأكل.

«هنتنقل مش بمزاجنا، ورزقنا على الله»، يقولها يحيى وخلفها سنوات خبرته بالصنعة التى لا يعرف غيرها، والتى ستجبره على الارتحال للروبيكى عند تنفيذ قرار النقل، ليبدأ بالتفكير بشكل عملى فى خُطط الإسكان هُناك، وبالرغم من الحديث عن وحدات سكنية لعمال المدابِغ، لا يُبالى يحيى كثيرًا بتفاصيلها «اللى أعرفه إن فى وحدات سكنية للعُمال صحيح، بس مين هيسكُن فيها، العقل بيقول إن ألف باء هيسكُن فيها العامل اللى معاه ورقه، ومفيش مكان للأرزقى اللى زى حالاتى فيها».

غير أن يحيى يبدو أفضل حالاً من غيره بخبرته فى الدباغة التى لابُد ستضمن له فرصة عمل فى المدابِغ الجديدة، من «أرزقيّة» بالمئات يتكسبون رزقهم من مِهن خلّقوها لأنفسهم فى شوارِع المدابِغ بمصر القديمة، الحاجّ خالِد أحد هؤلاء، ترَك الدباغة منذ سنوات، «لاستغلال أصحاب المدابِغ» على حد تعبيره، ليبدأ مسيرته المهنيّة فى «الشِيالة»، يسترسل خالد فى شرح طبيعة المهنة التى ابتكرها بنفسه من ملاحظته لدورة العمل فى شوارع المدابغ، حيث وجد حاجة لوجود «عتالين» يقومون بنقل الطرائح من مدبغة لمدبغة لاستكمال دورة دبغها فى المدابغ الأبسط التى لا تشتمل على جميع الماكينات اللازمة لإتمام عملية دبغ الجلد، وبدأ هو بشغل هذا الفراغ.

يقول خالد «بنلِم الخارجين من السجن والمسجلين خطر اللى محدش هيشغلهم وبنشغلهم فى الشيالة، بدل ما يرجعوا تانى للأعمال غير القانونية، فى شارع هنا فى المدابغ، كله شيالة من المنيا، بييجوا ياكلوا عيش ويسترزقوا من هنا من سنين، ويوميّاتهم على باب الله».

براويز خشبيّة عملاقة، تتراص على الجانبين بشوارع المدابِغ، لتشى بمهنة فى طريقها للاختفاء السريع بنقل المدابغ لمنطقة الروبيكى، وتشريد عموم العاملين بها، يشرح حمدى، عامِل مُسمار ستينى، بمزيد من الشغف دور براويزه الخشبية التراثية ومساميره فى عملية دبغ الجلد الطبيعى، حيث يأتى دورها بعد عملية الصبغ، لتجفيف الجلد المائل للانكماش، وفرده، وإنضاجه فى الشمس بعد تجريده من كُل ذرّة رطوبة، الأمر الذى تستبدله المصانِع الكُبرى بعدة ماكينات للكيّ والفرد والتجفيف والنشر، لا يستطيع أصحاب المدابِغ الأصغر تحمُل كُلفتها، الأمر الذى يضمن بقاءه فى خريطة دباغة الجلد، واستمرار استرزاقه من هذه المهنة البسيطة.

على الرغم من أن أبراج «الجيلاتين» تبدو شديدة الوضوح من خارج سور مجرى العيون، يصعب الوصول إلى بوابات مصانعها الرئيسية دون الاهتداء إلى خطوات دليل، فى الوهلة الأولى، يبدو مصنع الجيلاتين ذو البوابة الحديدية المفتوحة على مصراعيها فارغًا تمامًا. عبدالكريم الزهورى، شاب فى مُقتبل العمر، يعمل فى دباغة الجلود مهنة عائلته المتوارثة، إضافة لتصنيع الغراء والجيلاتين، وهى المواد التى تُصنع من مُخلفات دباغة الجلود، يُطلق عليها «سِلاتة» والتى تمر بـ4 مراحل مُنفصلة قبل أن تتحول للجيلاتين الصناعى والغراء إضافة للجيلاتين المُستخدم فى الأغذية.

لن تعود صناعة الجيلاتين كما كانت بعد الانتقال للروبيكى:« النقل للروبيكى معناه القضاء على الصناعة بالطريقة البلدى»، فالظروف القائم عليها مشروع الروبيكى لا تُناسب الطريقة التقليدية للتصنيع، والتى تتم آخر مراحلها بعد نقع «السِلاتة» فى الكيماويات ثم شطفها ثم إحلالها للصورة السائلة، وذلك عن طريق عملية تجفيف طبيعية فوق أسطح المنازل/ المصانع على مجموعة من الأسلاك المُثبتة على قوائم خشبية شديدة الارتفاع، إلا أن الشاب العشرينى كان قد تأكد أن إقامة المبانى ممنوعة فى منطقة الروبيكى، فضلا عن أن درجات الحرارة فى المنطقة الصحراوية شديدية التطرف عنها فى وسط المدينة، ما له أن يؤثر سلبًا على أبراج التجفيف، فالبرودة الشديدة تُكسب الألواح صلابة زائدة الحرارة المُرتفعة تُسبب ذوباناً غير محمود الأثر.

يرى «الزهورى» أن 80% من عمالة الجيلاتين مُعرضة للبطالة مع بدء إجراءات النقل: «ذنبها إيه الناس اللى معهاش فلوس تجدد؟!».

وفقًا لطبيعة عمله، كرئيس غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات المصرى كان محمد حربى، من أوائل زوار مشروع الروبيكى فى حُلته الجديدة، تنتابه حماسة لدى حديثه عن «المدبغة النموذجية» كذلك المركز التكنولوجى المتوقع تأسيسه فى مدينة الروبيكى، تزداد حماسته لدى ذكر التطور التنفيذى للمشروع على أرض الواقع خلال الأشهر القليلة الماضية: «قبل كدا كنا بنروح نلاقيه صحراء»، إلا أن «حربى» الذى استقبل «المصرى اليوم» فى مصنعه القائم بمجرى العيون، يتردد لثوان بسؤاله عما إذا كان مُتفائلاً: «مع احترامى للجميع، الموضوع هيحصل هيحصل».

يؤكد «حربى» على اهتمام الإرادة السياسية للبلاد يإنجاز المشروع فى أقصر فترة زمنية مُمكنة، ما يجعل تنفيذه أمرا حتميا، يتطلب تكاتفا وتعاونا بين أرباب الصناع وتشجيعهم لبعضهم البعض وليس العكس: «كله بيعانى، الموضوع مش صعب ع الصغيرين وسهل ع الكبار».

«بيقولوا فى خمسة ستة هم المستفيدين، ليه ما تبقوش زيهم» يؤكد «حربى» على ضرورة تشجع أهالى المدابغ على اقتحام عالم التطوير والانضمام لركب الروبيكى، والاستفادة من القروض الحكومية المطروحة للتوسع وتطوير مُعدات العمل والاستفادة من فرص التصدير:«العملة الصعبة حاجة كويسة للبلد ولينا».

يسترجع رئيس غرفة الدباجة بعض الذكريات على عُجالة عن بداية مشواره فى طريق التوسع والتصدير: «زمان كنا بنسمع ديون وبنخاف برضو، لكن خلاص، ما تضيعش الفرصة، ما تبقاش ضعيف».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية