فى «الأيام الأولى» التى اندلعت فيها أحداث ثورة يناير 2011 خرجت للشوارع شرائح مصرية راقية، على قدر من الوعى العام، فبدا المشهد مجيداً ومبشراً بالخير.. وهو ما دعا كثيرين آنذاك إلى القول بأن الثورة أظهرت أفضل ما فى المصريين، وبلغ المديح العالمى لما يجرى فى مصر، إلى الحد الذى تجلى فى قول رئيس إيطاليا: «من جديد، جاء الوقت الذى نتعلم فيه من المصريين»، وقد سمعت منه هذه العبارة، قبيل الثورة، يوم كنا نفتتح متحف المخطوطات بالإسكندرية، بعد تطويره بمنحة سخية من الحكومة الإيطالية، قدرها مليون يورو.. وأيامها قال الرئيس الأمريكى أوباما، على الملأ، لشعبه: «علينا أن نربى أطفالنا ليكونوا حين يكبرون، مثل الشباب المصرى»، هكذا قال بالنص!، وكثرت هذه «الشهادات» فانتشرت آنذاك عبارة: الثورة أخرجت أفضل ما فى المصريين.
وفى «الأيام الأخرى» للثورة، أى بعد أسبوعين أو ثلاثة، امتلأ المشهد بشرائح مصرية أخرى مختلفة، ظلت تتوافد من بعد اليوم المعروف باسم «موقعة الجمل» حتى بلغت المدى فى اليوم العجيب المسمى «جمعة قندهار».. وانسحب الأولون من الميادين والشوارع، وتسيَّد الساحة الآخرون المتأخرون فى دخول المشهد، تطبيقاً للقاعدة المشهورة القائلة: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.. وتوالت المشاهد والشهادات الدالة على أن الثورة تحولت إلى فورة، وانحرفت عن هدفها الأصلى كصرخة ضد الاحتقار، وكاعتراض على توريث الحكم «الجمهورى»، وكرفض للفساد الذى استشرى سياسياً واقتصادياً، وهى مطالب الفئة الأولى التى خرجت ثائرة فى البداية، إلى مطالبات الموجة الثانية الهادرة بشعارات وهمية غريبة عن الهدف الأصلى للثورة: تطبيق الشريعة، تحرير القدس، إقامة الخلافة. وفى غمرة هذا التحول، جرى فى الخفاء تواطؤ بين القادة والقواد، بين المجلس والمكتب، بين الملتحين وحليقى الوجوه، فانتهت الواقعة المجيدة إلى نهاية رخيصة، تم التعبير عنها بعكس العبارة الأولى، فقيل وقتها: الثورة أخرجت أسوأ ما فى المصريين.
وفى حقيقة الحال، فإن «الأفضل» و«الأسوأ» لم يكونا صفات كامنة فى عموم المصريين، فخرجت بالثورة!، وإنما هى صفة للموجة الأولى (المبادرة) باعتبارها أفضل شريحة مصرية، وللموجة التالية (الغادرة) باعتبارها أدنى الشرائح المجتمعية فى مصر. وبعبارة أخرى، بدأت الثورة بمجموعات تلتزم بمنظومة قيمية راقية تُعلى من معنى الوطن وتعنى بالوعى العام واستشراف المستقبل، وخمدت الفورة مع مجموعات تؤمن بقيم أخرى تعلو بالخرافة وتعتنى بالإعلاء الوهمى للذات انطلاقاً من صورة مشوهة عن الماضى.. بعبارة أخيرة: اصطدمت منظومتان، لكل منهما قيم وتصورات وأفعال مختلفة.
■ ■ ■ ■
وأثناء جريان تلك الوقائع والتحولات المريعة، دعانى اضطراب واقعنا العام إلى الاهتمام بمسألة (القيم) فى حياة المجتمع والفرد، فألقيت عدداً من المحاضرات وكتبت مجموعة من المقالات، كانت خلاصتها فصلا مستقلا فى كتابى الصادر قبل شهور بعنوان «شجون مصرية»، وهو الفصل الذى عنوانه «منظومة القيم»، وفيه طرحت رؤيتى للترتيب التصاعدى (الهرمى) للمنظومة القيمية التى يتربع على أعلاها ما نسميه القيم الكبرى، وهى القيم الثلاث المنصوص عليها والمندوب إليها منذ زمن مبكر: الحق، الخير، الجمال.
وقد رأيت من جانبى، وربما أكون مخطئاً، أن قمة هرم الفضائل وتاج منظومة القيم، هو: الصدق.. وقلت فى تبيان ذلك وتأكيده: يمثل الصدق قيمة مختارة ومدعومة بالموروث الإنسانى الطويل، العقلانى والدينى، باعتباره القيمة المؤكدة لبقية القيم، فابتداءً من القيم الثلاث الكبرى (العليا) ونزولاً إلى القيم الفرعية المشتقة من القيم الكبرى، والمتداخلة معها، لا يمكن أن تقوم أى قيمة وتصح، إلا بالصدق.. وإلا، فكيف يكون «الحق» حقاً، لو كان مشوباً بالكذب!، فالحق هو نقيض الكذب، الذى هو بدوره نقيض الصدق. فكأن الحق والصدق هما مسميان لقيمة واحدة، أو هما وجهان لعملة واحدة.
وكذلك الحال فى القيمة العليا الثانية «الخير»، فهى الأخرى لن تقوم ولن تصح، إلا إذا زينها الصدق، فالذى يفعل أفعال الخير رياءً أو بحثاً عن مديح، أو ذراً للرماد فى العيون كيلا ترى الناس معايبه، لا يمكن أن يكون خيراً.. وكذلك الجميل لا يكون جميلاً وهو كاذب، ولن أزيد فى بيان ذلك كيلا تغضب العجائز من النسوة المسرفات فى تزييف هيئتهن، ويغضب الذين يهتمون بتحسين الشكل مع عدم العناية بالجوهر.
■ ■ ■ ■
ولأن الأشياء تُعرف بأضدادها، واستهلاماً من عنوان كتاب جمال الدين الوطواط، المتوفى سنة 718 هجرية «غُرر الخصائص الواضحة وعُرر النقائص الفاضحة» فإن الكلام عن القيم يكتمل بالنظر فى نقيضها وهو: الرذائل.. فالرذيلة هى نقيض الفضيلة وضدها، ومثلما تتراتب الفضائل هرمياً فتشكل «السلم القيمى» بدرجاته التصاعدية، تتصاعد الرذائل من سفح الصغائر والهنات، إلى مستوى الكبائر والبلايا.
ومثلما تشترك الأخلاق مع الدين، فى إرساء المنظومة القيمية بكل مشتملاتها العليا والدنيا، يشتركان فى تحديد مفهوم الرذيلة وفى بناء التصور الهرمى للرذائل.. فهما (الدين والأخلاق) يتفقان فى معظم الأديان ولا يخالفان بعضهما إلا فى بعض النقاط الفرعية، وفى التسميات!، فما يسميه الدين «الذنوب» تسميه الأخلاق: العيوب (المعايب)، وما يسميه الدين «اللمم» تسميه الأخلاق: الأخطاء الصغيرة، وما يسميه الدين «الفاحشة» تسميه الأخلاق: الانحراف.
كما يتفق الدين مع الأخلاق (الأكسيولوجى) على أن للرذائل هرماً تصاعدياً، هو المعبر عنه مثلاً فى الآية القرآنية التى تمدح المؤمنين بأنهم: يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.. ويعبر عنه فى الفلسفة الأخلاقية بالتفاوت بين الأخطاء الصغرى، والخطايا الكبرى التى عبر عنها «الوطواط» فى كتابه المشار إليه سابقاً، بتسميتها: عُرر النقائص الفاضحة.
وقد أوهم هذا الاشتراك بين الدين والأخلاق، بأن كليهما قد ينوب عن الآخر، وهذا غير صحيح، فالقيم والرذائل فى الدين يحددها النص والأقوال الآتية من السماء، بينما يقوم علم الأخلاق على أسس واقعية، وينطلق عقلياً مما هو أفضل لحياة الفرد والجماعة بصرف النظر عن الجانب الغيبى (الميتافيزيقى) الذى يحدد ما هو فضيلة وما هو رذيلة.. وقد أدرك العقل الجمعى، المصرى، هذا الاختلاف الفرعى بين الدين والأخلاق وعبر عنه بقول الناس عن الشىء المقبول: «لا هو عيب ولا حرام»، وهو ما يشير إلى هذا الاختلاف الطفيف، بين المحظور فى الأحكام الدينية (الحرام) وفى القواعد الخلقية (العيب).. وهذه الأخيرة، يحلو لبعض الناس تسميتها: الأخلاق الوضعية!، وهى تسمية «ماكرة» تستغل التشابه اللفظى بين «وضعى، وضيع» لتُحيل إلى معنى غير مصرح به، هو أن علم الأخلاق أقل درجة من الواجبات والنواهى الدينية وأدنى منها مرتبة من حيث الأهمية.
ولكن، على الرغم من ذلك الاختلاف الطفيف، تبقى مساحة الاتفاق بين الدين والأخلاق هى الأكبر.. اللهم إلا عند بعض المهووسين دينياً، ممن يظنون أنهم أفضل من المخالف لهم والمختلف معهم فى العقيدة، ولا يرون فيه أى فضيلة، ولهذا يندهشون حين يرون ما يعدونه كافراً، فاضلاً فى سلوكه!، وهم ينطلقون فى ذلك من قاعدة «إلغاء» خطيرة، مفادها أن الأصل الفاسد لن يعطى فرعاً طيباً.. وهنا تكمن مآسى التدين وويلاته التى يندى لها جبين الإنسانية خجلاً.
■ ■ ■ ■
نعود إلى مفهوم «الهرم» والترتيب التصاعدى للفضائل وللرذائل، فنقول: إذا كانت قمة هرم الفضائل هى أعلاه، فإن هرم الرذائل (المقلوب) تكون قمته هى القاع الأسفل الذى تعلو فوقه تدريجياً بقية الرذائل: الأشنع، فالأخف.. وإذا كان الصدق هو قمة البناء الهرمى لمنظومة القيم الفاضلة، وهو الضامن لبقية القيم العليا والأقل علواً والدنيا.. فإن «الطمع» هو القيمة المقلوبة (المعكوسة) لهرم الرذائل، وهو الدافع المحرك لمعظم العيوب الخلقية ابتداءً من أصغر الأخطاء وانتهاءً بأبشع البلايا، ودعونا نتوقف عند بعض الأمثلة والشواهد:
من المعايب الأخلاقية، الغل والحسد وتمنى زوال الخير من يد الآخرين، وهو ما يقود بدوره إلى سلوكيات مذمومة كالتآمر، والنميمة، والتلفيق، والتخريب، وما يسميه عوام الناس فى بلادنا: الخبص، فهل يتدهور سلوك الإنسان فى هذه الهاوية من الرذائل، لو كان الخير المغلول بسببه والمحسود به، بيد مرتكب تلك الرذائل؟ بالطبع لا، وبالتالى، فإن الطمع هو الدافع المحرك لسلسلة الرذائل المتوالية، التى من شأنها أن تهبط بالسلوك إلى أحط المستويات.
كما ترتبط الرذائل كلها بالطمع، ولكن بدرجات متفاوتة منها ما يغيب عن الأنظار لدقته، فالكذب مثلاً لا يكون إلا للطمع فيما لا يستحقه الكاذب، ولولا ذلك ما كذب أو أظهر الرياء أو أخفى الحقائق، وسواءً كان الكذب لاستجلاب منفعة أو لتلافى عقاب واستهجان، فهو فى الحالتين طمع فى غير المستحق للكاذب.. وقس على ذلك المخادعة والرياء، وما يسميه العامة مجازاً «مسح الجوخ»، فلا أحد يهوى مسح الجوخ أو مجاملة ذوى السلطة، ولولا طمعه فيما يمكن أن يحصل عليه منهم، ما كان ليكلف نفسه مشقة المسح لملابسهم الفاخرة «الجوخ» ولأحذيتهم، لكن طمعه يحركه ويدفعه لبذل ماء وجهه، سعياً لاسترضائهم وطمعاً فيما يمكن أن يلقوه إليه من المنافع والمناصب وحطام الدنيا، ومن هذه الزاوية، يكون الفساد السياسى والظلم الاجتماعى وانعدام العدالة، ويكون الانهيار فى جوهر الحياة بالنسبة للفرد والمجتمع.
والطمع، كما أشار الإمام الجيلانى فى بعض كتبه «تحديداً، مجموعة مواعظه: جلاء الخاطر فى الظاهر والباطن» كله فارغ كحروفه الثلاثة: الطاء والميم والعين.. بمعنى أن الطامع يكون دوماً فى فراغ، لا يشعر معه بامتلاء أو رضا أو قناعة، فهو أبداً يريد المزيد، عساه يتوقف عند حد، غير أن الفراغ الوجدانى وافتقاد الرضا وطلب الأكثر، تحدو به إلى الدرك الأسفل من الفعل الإنسانى، سواء الفردى أو الجماعى.. وحتى فى شأن الدول والسياسات العامة فى العالم، نرى الطمع فى نفط الخليج وثروات الأمم قبل ظهور النفط، هو المحرك للفترة الاستعمارية وللممارسات الأمريكية القبيحة والحروب الرخيصة خارج الحدود، ومادام الطمع قد ملك نفوس هؤلاء الذين يرسمون تلك السياسات، فلن يعرف العالم السلام أبداً.. وسوف تظل الساحة الدولية مليئة بالرذائل والبلايا الناتجة عنها.