يستعرض المشهد الأول فى «ابن بابل» من خلال كادر واسع جدا أرض شمال العراق وامرأة عجوز تقف كأنما نبتت من هذه الأرض، أو أنها تمثل هذه الأرض.. من هذا المشهد تبدأ عملية الترميز، التى سوف تشكل البناء الأساسى للبعدين الفكرى والسياسى للفيلم.. مع ملاحظة أن المشهد يبدأ بكتابة على الشاشة تفيد بأننا فى شمال العراق.. ولم يكتب المخرج كردستان مثلا، وهى التسمية الإقليمية للشمال، ولكنه آثر أن يعتبر العراق واحداً.. وأن الأكراد جزء من النسيج العراقى العام وليس إقليماً منفصلاً يشار إليه بخباثة سياسية. هذه المرأة/الأرض، سوف تصبح هى وحفيدها أحمد أو «حما» كما تنطق باللغة الكردية بطلى هذا الفيلم /الرحلة، الذى ينتمى إلى نوعية أفلام الطريق أو «road movies»، وهى نوعية الأفلام التى تدور أحداثها، وتتشكل حبكتها الرئيسية، وتتطور من خلال حركة الشخصيات الرئيسية خلال طريق يبدأ من نقطة معينة، ويستمر هربا أو بحثا عن شخص أو شىء ما، واختيار شكل فيلم الطريق يعتبر اختياراً ذكياً من قبل المخرج أولا، لأنه يناسب الروح التسجيلية، التى تم بثها خلال أجزاء العمل، خصوصا أن أحداثه تدور بعد أسبوعين من سقوط نظام صدام عام 2003 فى فترة التخبط والارتباك والضياع والدمار، التى شهدها العراق من أقصاه لأدناه، ثانيا، لأن الموضوع نفسه يتمحور حول تيمة البحث عن الابن الغائب.. وهو هنا إبراهيم ابن المرأة العجوز وأبوحفيدها أحمد.. والمحتجز فى سجون صدام منذ 12 سنة أى من 1991، وهو توقيت انتهاء الغزو العراقى للكويت.. وحيث يتحول الابن هنا إلى رمز لأبناء هذا الشعب، الذى ظل سنوات طويلة يرزح تحت نير نظام ديكتاتورى قمعى نراه متجسدا من عين صانع التجربة عبر عشرات التفاصيل (سجون- مقابر جماعية).
ويتحول البحث عن الابن/الأب إحالة مباشرة لكل كلاسيكيات الدراما، خصوصا أن شخصية الابن المفقود تتماهى مع تطور الحبكة فى شخصيات أخرى لنساء أخريات يبحثن عن الزوج أو الأخ أو الحبيب.. وبالتالى يفصح الفيلم بمباشرة إبراهيم..خصوصا عندما تلتقى الجدة والحفيد أثناء رحلتهما عبر مدن زى ظفار وبابل وبغداد أكثر من شخصية تمثل فى الإطار الفكرى للفيلم وجهاً آخر من وجوه إبراهيم/الابن المفقود.. مثل شخصية موسى الشاب العراقى/العربى، الذى يتحدث الكردية، لأنه كان أحد جنود الحرس الجمهورى فى عملية الأنفال الشهيرة، التى ضرب فيها صدام الأكراد بالسلاح الكيماوى، وأباد قرى كاملة، ونلاحظ بالطبع الإشارة المباشرة فى أسماء إبراهيم وموسى وأحمد وكلها أسماء ذات دلالات دينية (سنية وشيعية)، بل إن هناك إشارة خفية طوال الفيلم لقيمة العراق التاريخية، وكونه مسرحاً لحياة الأنبياء.. حتى إن الفيلم يصور المزار الأثرى المعروف ببيت النبى إبراهيم، بل تحكى الجدة لأحمد حكاية الفداء الشهيرة عندما يصيبه الخوف والأرق خلال الطريق، لكى تهدهده بها لينام.. وعندما يستيقظ يجد الأتوبيس قد توقف أمام بيت النبى إبراهيم، فيشعر أن الحكاية قد تجسدت، وخرجت فى شكل واقعى. أما الشخصية الثانية التى تظهر ولا تظهر فى الحقيقة فهى ذلك الجندى السجين، الذى تشتبه الجدة فى أنه ابنها، وتذهب لرؤيته خلال الرحلة فى أحد المقامات الشيعية، حيث يصور لنا المخرج المقام من الخارج، والأم تدخله لرؤية السجين عله يكون ابنها المفقود، وهى إشارة بصرية مثل عشرات الإشارات، التى حرص «الدرادجى» على أن يضعها طوال الفيلم، للتأكيد على وحدة النسيج الوطنى.. ومن تلك الإشارات أيضا معرفة الطفل أحمد اللغتين العربية والكردية.. وأحمد هو رمز الجيل الجديد من أطفال العراق وقتذاك، الذى نراه فى البداية يرتدى «أفرول» والده العسكرى، ويرغب فى أن يكون جندياً.. لكنه بعد رحلة البحث الطويلة، التى فقد فيها جدته فى النهاية يقرر أن يصبح موسيقياً كوالده أيضا (قبل أن يتم إجباره على الالتحاق بالجيش)، ويصبح الناى هو رمز هذا التحول، ولكن يبقى لدى الطفل ذلك الحلم المفقود برؤية حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.. حيث وعدته الجدة بزيارتها بعد العثور على الأب، لكن هذا الحلم لم يتحقق ربما لعدم العثور على الأب، أو لوفاة الجدة سيظل يراود الطفل، وفى الوقت نفسه سيرهص لصعوبة المصير، الذى سوف يواجهه بعد أن فقد أباه وجدته. ولنا أن نتصور ما هو حال هذا الطفل فى ظل الاحتلال الأمريكى منذ سبع سنوات للعراق، وهل لا يزال على قيد الحياة؟
إن غياب عنصر الاحتلال الأمريكى فى الفيلم أو ظهوره فى مشهد واحد فقط على أبواب بغداد يجعل التساؤلات تنبثق حول الرؤية السياسية للأحداث، فهناك تركيز يكاد يتحول إلى إكلشيه على أن حكم صدام هو الذى جلب على العراق كل هذا الخراب، الذى نراه طوال أحداث الفيلم من خلال حالة إيهامية جيدة بالانفجارات البعيدة، والأطلال المتهدمة والنيران المشتعلة فى كل مكان.. ولكن هل هذه هى كل الحقيقة وراء الاحتلال، أم أنها تلك النظرة الضيقة، التى تحمل نظام البعث كل ويلات الاحتلال الأمريكى للعراق؟ صحيح أن الرسالة الأساسية للفيلم تتجسد من خلال مشاهد المقابر الجماعية والهياكل العظمية المكتشفة والمرثيات العديدة التى تملأ شريط الصوت، لكن فى مقابل المليون شخص، الذين فقدوا أو قتلوا خلال نظام البعث طوال أربعين سنة، كما تشير المعلومات المكتوبة فى آخر الفيلم، إلى أن هناك أكثر من مليونى عراقى قتلوا، بسبب الاحتلال الأمريكى خلال السنوات السبع السابقة، ولو أن نظام صدام كان السبب فى غزو العراق، فلماذا لم ترحل أمريكا حتى الآن بعد أن أسقطت هذا النظام بسنوات؟! إذن هناك أحادية ما داخل التجربة فى النظرة لتوابع نظام البعث وصدام، وقد استخدم «الدرادجى» أسلوب الكاميرا المتابعة للرحلة طوال الوقت، لكن دون تلك الحركات الخشنة، التى يسببها الشكل التسجيلى، فنحن أيضا أمام محاولة للتغزل فى وطن جميل، وأرض لها خصوصيتها الطبيعية والمعمارية، ولها شخصيتها البصرية، التى ترسمها ملامح النهار المختلفة خاصة عند الغروب. كذلك أجاد «الدرادجى» التعامل مع عناصره التمثيلية، خصوصاً شخصيتى الجدة والطفل.. خاصة أن الفيلم يتعثر فى أكثر من منطقة ميلودرامية مثل مشهد نداء الطفل والجدة على إبراهيم فى سجن الناصرية.. والميلودرامية هى آفة أى عمل تراجيدى نابع من خلفية أيديولوجية أو سياسية، خصوصا مع عملية الترميز المستمرة لكل العناصر والأماكن لكن «ابن بابل» فى النهاية يظل تجربة نجحت فى الخروج من الهم الخاص إلى الهم العام على الأقل فيما يخص التعبير عن جزء من معاناة الشعوب العربية فى ظل الأنظمة الديكتاتورية وتوابعها.