التدرج والمفاجأة:
للسرد منطقه ونظامه التقنى، ولا أقصد بذلك كيفية إدارة الزمن بالأحداث، ولا تقديم الشخوص بخواصها فحسب، بل أعنى كيفية وضع البذور ونمو الأشجار وسقوط الثمار، فلكل معلومة يتبرع بها الكاتب وظيفة لا يكتشفها القارئ إلا بالتدريج وأحياناً بدهشة المفاجأة، وهذا النوع من رواية المعلومات لا يناسبه سوى الراوى العليم الذى لا يُسأل عن مصادره ولا حدود لمعرفته، فهو يستغرق مثلاً فى حكاية المراكبى الصعيدى الطموح جد منتصر وكيفية زواج أبيه من أمه تركية الأصل فيتصور القارئ أنه استطراد لا مبرر له، لكنه لا يلبث أن يدرك أثره العميق فى تكوين شخصيته وشرح نهمه الشديد للثروة التى يتوقف عليها حفظ ماء الوجه أمام الأنداد، وكيف تتفجر هذه الحاجة جوعاً لا يشبعه شىء، ثم يستطرد مرة أخرى ليصف علاقة عابرة له بجارة يهودية قضى معها بعض مغامرات المراهقة، قبل أن تهاجر إلى إسرائيل ويطويها النسيان، ثم تستيقظ الذكرى لتصبح سيلفيا إحدى الأدوات المهمة التى مكنته من عقد أكبر صفقات التعامل المباشر مع العدو الصهيونى فى العقد الأخير من نظام مبارك، وهنا نتوقف عند خاصية فارقة فى شخصية هذا السمسار العجيب، فالرواية تقدمها باعتبارها شخصية متخيلة، وتحرص فى البدء على النفى التقليدى لعلاقتها بالواقع التاريخى، وتعمد إلى تحريف كل الأسماء، لكنها تنسج غلالة حريرية شفيفة من الخيال الناعم تتراءى خلفها بوضوح مذهل أسرار كواليس السلطة فى مصر خلال العهود الثلاثة لناصر والسادات بشكل سريع ومبارك بالتصوير البطىء. لا نستطيع التوقف عند طريقة تجنيد منتصر بالمخابرات ولا أسلوب استبعاده منها مع أهمية ذلك، لكننا نشير إلى لحظة فارقة فى أواخر عهد السادات عندما دعى منتصر لتقديم العون اللوجستى الضخم للقبائل الأفغانية التى تحارب القوات الروسية «التعليمات من القاهرة لشركة منتصر بنقل دبابات روسية ومدافع ميدان وراجمات صواريخ وأسلحة متوسطة وصغيرة وذخيرة لا حصر لها، أما شريكه شوكت فعليه نقل السكر والدقيق والمواد الغذائية وبقية مؤونة القبائل المحاربة، الصفقة ضخمة وحجم العمل كبير والأرباح لا حدود لها.. أخفى المكسب الإجمالى عن شوكت وهو مليار دولار» ما لم تذكره الرواية عن تلك الصفقة أنها كانت جزءاً من اتفاق ثلاثى عقد بين أمريكا ومصر والسعودية لطرد الروس من أفغانستان بتمويل مالى وتحريض أيديولوجى من السعودية - أسفر عن ولادة القاعدة وتوحشها، وتنظيم مخابراتى ولوجستى من أمريكا، وتزويد بالرجال والدعاة والمجاهدين من مصر، لكن منظور الرواية كان يغطى عمليات السمسرة التى يقوم بها منتصر فحسب، وهناك واقعة تاريخية أخرى يغلفها المؤلف بقناع روائى شفيف يمتد فى علاقة منتصر الطويلة باللواء «عبدالعظيم» منذ انضم إليه، وكان ملحقاً عسكرياً بالسفارة المصرية فى «واشنطن»، واقترب منه بشدة خلال توليه وزارة الدفاع، وجاء تمرد الأمن المركزى فى بداية الطريق الصحراوى ليجبر الرئيس على الاستعانة بالجيش لإحباطه، وهتفت الجماهير لوزير الدفاع الذى ارتفعت أسهمه فقال: «البلد لم يكن لها صاحب، والسلطة كانت ملقاة على الرصيف فلم أمد يدى لألتقطها» وعندئذ تم تدبير كمين له فى بيت منتصر صديقه حيث قبض عليه وأرسل بطائرة عسكرية سفيراً لمصر فى الجزائر.
ومن الواضح أن الإشارة هنا للمشير أبوغزالة الذى برز تحت التمويهات المختلفة، ومهما كان نصيب هذا المتخيل من الواقع التاريخى، فإن صفقة الغاز التى عقدتها شركة منتصر مع إسرائيل بأمر مباشر من مبارك قد هتكت القناع الروائى، وإذا كان ما يعنينا فيها هو قدرة الكاتب على تحويل المعلومات التاريخية إلى بيانات جمالية بإتفان تقنيات السرد الفنية ونسج خيوطه وتضفير أحداثه وتعميق البواعث وتمثيل العوالم الجادة والمنهكة فى استخدام الرشوة الجنسية والتآمرات الاقتصادية- فإن الرواية قد قدمت لنا نصاً شائقاً يستحق القراءة والتأمل على وجازته وكثافته وسرعة إيقاعه الشعرى الجميل.