x

إبراهيم الجارحي ثورتنا المستمرة إبراهيم الجارحي الإثنين 04-07-2016 10:59


نشأت مصر كأول دولة قومية في التاريخ على ضفاف النيل قبل نحو خمسة آلاف وأربعمئة سنة على يد الملك مينا، الذي وضع معالم التحدي في بقاء هذه الدولة القومية في عنصرين ما زال كل منهما يلعب دور قائمة الارتكاز في كيان هذه الدولة حتى الآن، وهما «وحدة وسلامة الإقليم» و«الحفاظ على الهوية القومية».

وتعرضت هاتان الركيزتان لضربات هائلة على مدار التاريخ المصري، سواء بالغزو العسكري من الخارج أو بتلقي الهوية المصرية لتحولات ثقيلة في اللغة والثقافة والدين، لكن الدولة القومية المصرية التي جمع مينا أطرافها معا ظلت عصية على التفتت، منيعة على الذوبان، كبيرة على الابتلاع.

وظل الجيش المصري الذي تأسس مع تأسيس الدولة حاميا لركائزها، ومقدما قوته المهيبة قربانا لوحدتها وسلامتها، وضمانة وصيانة لقوميتها وهويتها، وخاض من أجل ذلك مئات المعارك الدامية في الداخل والخارج، وروى التراب الوطني بدماء زاكيات تعالت حتى أصبحت سدا منيعا لا تغزوه فتنة، ولا تهزه الضربات الثقال.

نشأت القوات المسلحة المصرية على أساس واضح يعلو بها أن تكون القوات المسلحة للدولة المصرية فحسب، ويضعها في دور الذراع العسكرية لشعب هو وحده يقودها، ويحرك حرابها ومدافعها إلى حيث تبتغي مصالحه القومية العليا، فيبطش متى وجب البطش، ويعفو متى أراد.

كانت القوات المسلحة المصرية تعرف جيدا في يناير 2011 أنها لا تملك إلا خيار الانحياز للإرادة الشعبية، التي – وبغض النظر عن الاحتجاجات وأصوات الميادين والشوارع – كانت قد اتفقت على أن عصر مبارك قد انتهى، وأن لحظة تاريخية ما يجب أن تكتب كلمة نهايته، فكان قرار الجيش بالتخلي عن ظهر مبارك والوقوف في ظهر الخيار الديمقراطي الذي كانت نتيجته محسومة بحكم الظرف التاريخي لصالح جماعة الإخوان.

وصبرت القوات المسلحة حتى تلقت الأمر الشعبي التالي في الثلاثين من يونيو بالخروج على حكم الإخوان والقضاء على مشروعهم السياسي إلى الأبد، وما كان من الممكن أن يتحرك الجيش ضد خيار ديمقراطي للشعب إلا بتحرك شعبي يصدق على هذا التحرك بوضوح لا لبس فيه، وهو ما كان عندما صدر قرار نادر من الكتلة الصامتة التي تمثل المحتوى الإنساني والحضاري للقومية المصرية بإنهاء المهاترة الإخوانية التي حاولت تحويل الشعب المستقل إلى شعب تابع لجماعة، وتحويل الدولة القومية إلى مشروع ملحق بمشروعها السري الذي نشأ من بطون أجهزة المخابرات الأجنبية، ووضع قيأه الفكري تحت الأرض حتى ينتضج ويخرج علينا بديدانه بعد ثمانين سنة.

كان التحرك الدولي الذي تكلم حينها بأعلى صوت مدافعا عن «الشرعية» كاشفا للنوايا، مظهرا للأعداء رأسا وذيولا، فلم تكن «الشرعية» قضية ذات بال عندما أطاحت ذات القوة، الشعب وذراعه العسكري، بمبارك، بل كانت هذه الإطاحة محل ترحيب وتهليل وإيذان بحلول الربيع.
وظلت هذه الملحوظة المنطقية محل تغييب تحت وقع طبول من صورت لهم خيالاتهم أنهم أسقطوا مبارك بوقفة الميدان وحدها، وكأن قوة كانت قادرة في هذا الوقت على زحزحة مبارك لولا أن القوات المسلحة أطاعت قائدها الأعلى.. الشعب المصري.

إن أي تشكيك في شرعية ثورة الثلاثين من يونيو يهدم كلية أي شرعية لثورة يناير، فالفعل واحد، والفاعل واحد، والقياس واضح إلا لمن أراد عنه التعامي لينسب لنفسه فضلا ليس له، أو ليزعم شيئا لا محل له، فلم تكن ثورة الثلاثين من يونيو إلا ثورة القومية المصرية المستمرة منذ نشأة هذه القومية، والتي لا تكشف آلياتها عن أنيابها إلا عندما تحين اللحظة التي تستحق قرارا وتحركا بهذا الوزن.

ثورتنا المستمرة هي إيماننا الراسخ والدائم بأننا مصريون، وبأن مصريتنا هي ثروتنا الحقيقية التي لا نرضى منها انتقاصا ولا نرضى عنها بديلا، وأنها مصدر الشرعية الوحيد لأنها مالكة الحق الأصيلة.

ثورتنا المستمرة هي قوميتنا التي تغلي منذ أن وضعت على مراجلها منذ خمسة آلاف سنة وينيف، وما زالت تصهر معادننا نارا في بطنها نار هي آكله كل من اقترب من جذوتها المستعرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية