كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحا، اعتاد أن يستيقظ فى هذه الساعة المبكرة، صور المسيح والعذراء والشهداء والقديسين تملأ حوائط حجرات منزله، ينظر إليها من وراء نظارته الزجاجية ثم يدعو الله أن تعيش مصر فى سلام واستقرار، بينما تدق الساعة الثامنة يكون قد أغلق باب بيته بصحبة زوجته فى طريقهما إلى محل «الفرارجى». هكذا اعتاد أن يفعل «جمال منصور»، ابن الأربعينيات، صبيحة كل يوم.
فى طريق «منصور» إلى محله الذى يبعد كيلومترات عن المنزل، امتزجت لافتات وملصقات المرشحين بمشاهد عشرات العجائز والشباب والأطفال الذين افترشوا جنبات الطريق لبيع الفاكهة والخضار والأسماك وأربطة البرسيم، مئات الذين شغلتهم لقمة العيش عن المشاركة فى الانتخابات، تلك السيدة العجوز التى جلست على الأرض لتبيع «الفول النابت»، أكوام القمامة التى تجمعت حولها عشرات الخراف، ماسورة المياه المنفجرة التى حولت الشارع إلى بركة مياه، ثم ذهبت عيناه باتجاه أتوبيس النقل العام «810» الذى اكتظ براكبيه، كان يقول لنفسه متسائلا: «زى كل مرة مفيش جديد، الشارع مليان يفط انتخابات، وبرده مفيش جديد».
لم يختلف يوم الانتخابات عما اعتاد «منصور» فعله كل يوم:«الصبح جيت عشان أستلم البضاعة، وجريت عشان أنتخب وأرجع لأنى ماعنديش وقت أضيعه».
خطواته السريعة باتجاه مدرسة «أحمد زويل»، التى تجرى بها الانتخابات، والتى تبعده بأمتار، جعلته يتجنب مجموعات الشباب الواقفين على ناصية الشارع فى محاولة لإقناع المارة بترشيح شخص معين، لم يلتفت إليهم، فكل ما يشغله الزبائن الذين قد يذهبون للمحل فيجدونه مغلقا أثناء وجوده فى الانتخابات، وبعد أن أدلى بصوته جرى باتجاه المحل وأخذ يخلع ملابسه ليرتدى ملابس مخصصة لتقطيع وتنظيف الفراخ.
اختار «منصور» أن يشارك فى الانتخابات على غير عادة أغلب الأقباط فى دائرة العمرانية والهرم، الذين التزموا الصمت وكأن الانتخابات تحدث فى بلد آخر، ولم يجذب «منصور» شعار المرشح خالد الأزهرى «نحمل الخير لكل الناس»، ولا شعار«لا للفتنة»، الذى اختاره مرشح الحزب الناصرى «صالح رجب»، ولا اللافتة الضخمة التى رفعها مجدى خطاب، لكنه اختار مرشح الوطنى الذى لم يكن يعرف غير اسمه الأول، فلا يعرف عنه سوى شىء واحد: «هو جه الكنيسة فى مرة ووزع ورق علينا، ووقف معانا، وأول مرة يترشح، والحياة تجارب».
بينما انشغل «منصور» بالبيع وتقطيع الفراخ، وجه سؤاله لـ«فيكتور شحاتة» الذى جلس على أحد الكراسى بداخل المحل: «رحت انتخبت يا فيكتور؟»، لكن فيكتور الذى بدا غير مكترث بالسؤال: «لا مفيش بطاقة انتخابية، مش عارف إجراءاتها إيه.. عادى يعنى»، فقاطعته «آمال فكرى»، التى وقفت برفقة حفيدها لشراء الفراخ: «هنتخب مين؟ كنت ساكنة فى الجيزة ولما عقدى خلص سكنت فى العمرانية، وتغيير الإقامة عايز شغلانة، بصراحة هما بيدوا 50 جنيه لكل صوت، ومحدش إدانى فلوس وعشان كده ما روحتش، الظلم فى بلدنا كتير، وحاميها حراميها، واللى يجوع ياكل زلط».
أما «جمال إسحق»، ابن الثلاثينيات، الذى كان يقف بعيدا ويستمع لتفاصيل الحوار الدائر، دخل فجأة ليقول: «بصراحة مش هشارك مشفتش حد عمل لى حاجة، ولا حتى فكرت أعمل بطاقة انتخابية، البلد من سيئ لأسوأ، مفيش جديد، ليه أروح أنتخب، ملهاش لازمة، كله تمثيل فى تمثيل».
كانت الأحداث الأخيرة التى جرت تفاصيلها فى حى العمرانية قبل أيام حاضرة فى ذاكرة كل الأقباط، حيث تركوا الانتخابات ليتطرقوا إلى ما جرى، فقال «منصور»: «الموضوع ماكنش يستحق اللى حصل.. دا مكان عبادة، أنا عن نفسى كان فى شيخ بيبنى جامع جنبنا، ولما اتزنق فى نقلة رمل خدت الناس وروحنا نقلناها، لزمتها إيه ضرب غازات مسيلة للدموع ورصاص»، لتقاطعه «آمال»: «الصحافة مجتش عشان تصور، لو فى أى حادث تانى كانت الصحافة جت جرى، بش عشان كنيسة محدش سأل، الشباب دى ذنبها إيه؟ سمعت أن فيه كنيسة بتنضرب قاموا راحوا يشوفوا فيه إيه، سابوا الناس تنزف وتموت، واحد نزف 11 ساعة ومات، دا كله عشان كنيسة، قصادنا حارة 6 متر فيها جامعين، لو طولت أقابل رئيس الجمهورية، مش هيأخد روحنا غير اللى مالكها».
حينها قررت زوجة «منصور» أن تخرج عن الصمت الذى التزمت به طوال الوقت وانشغلت بتقطيع الفراخ، لتقول:«عملوا إيه؟ الحكومة هى اللى ضربت العيال، مش هنتخب ملناش فيها، الانتخابات مش بتاعتنا».
لإنهاء الموقف قرر «منصور» الذهاب للحلاق فى الشارع المجاور ليقص شعره، وفى الطريق للحلاق قابل شابين قبطيين عند كنيسة مارمينا «يوسف السيد» و«وائل إبراهيم»، وعندما سألهما عن أخبار الانتخابات، أجابه الأول ابن العشرينيات قائلا: «الحد دا يوم أجازتى.. عايز أريح مش معقول هاروح انتخابات، ما بنصدق يوم الحد عشان ننام فيه، وبصراحة مش متعود أنتخب.. انتخبنا ما انتخبناش كله زى بعضه»، ليضيف الثانى ابن العشرينيات قائلا: «ملناش فى حاجة زى دى، ما نفهمش فيها حاجة ولا انتخبنا قبل كده ولا هننتخب».
عندما وصل لصالون الحلاقة، تحدث مع الحلاق عن الانتخابات، ليسأله الحلاق القبطى «شريف صبحى»، ابن الأربعينيات:«هى الانتخابات النهارده ولا إيه»، ليضيف:«مكبر دماغى، ما افهمش غير فى أكل عيشى وبس، ولا لى فى الطور ولا فى الطحين، البلد تخرب تولع، مليش دعوة»، أما «ماهر» ابن الأربعينيات الذى جلس ثالثا لهما، فصدق على كلام «صبحى» قائلا:«أنا كمان مليش فى الانتخابات، مش فاضى، أنا راجل أرزقى غلبان».
لا يجد «منصور» مانعاً لانتخاب مرشح من جماعة «الإخوان المسلمين»، فالفيصل فى الخدمات التى يقدمها للمواطنين: «الراجل اللى بيقدم لى خدمات هو اللى هانتخبه، معنديش تعصب، راجل هيجيب خدمات وخلاص، ماعنديش حاجة اسمها مسلم ومسيحى، بس للأسف الأيام دى الأحداث كتير ومش عارفين إيه السبب، نفسى المسؤولين من أعلى رتبة لأصغر رتبة يعاملوا ضميرهم، لكن ما لهمش دعوة بالناس».