x

غرق مراكب الهجرة غير الشرعية يكشف: جثث الأبناء.. تأشيرة العبور لـ«الجنة الأوروبية»

الأحد 26-06-2016 00:49 | كتب: أحمد شلبي |
الهجرة غير الشرعية الهجرة غير الشرعية تصوير : اخبار

عبر سنوات طويلة كانت ظاهرة الهجرة غير الشرعية للمصريين أبطالها من الشباب، لأسباب كثيرة أهمها البطالة، لم يكن أحد- مسؤول أو غير مسؤول- لديه القوة ليواجه شبابا يلقون بأنفسهم فى قوارب متهالكة، بعضهم يكتب له القدر الوصول إلى البر الآخر، وكثير منهم يبتلعهم البحر. كلما تساءلت كيف يفعلون ذلك؟.. تجد الإجابة بداخلك «إنها الحاجة والعوز».

لكن الأيام الماضية أظهرت تغيرات جديدة فى تلك الظاهرة.. البحر وحده كشف عنها فى غياب المسؤولين. البحر يقذف بجثث أسر بأكملها، تقارير حوادث الغرق تؤكد أن أسرا بأكملها أصبحوا يهاجرون بطرق غير شرعية، ليس لأسباب سياسية ولكن لأسباب معيشية بحتة. «المصرى اليوم» كشفت فى هذا التحقيق عن سبب هجرة الأسر، وكيف يستغل رب الأسرة أبناءه الصغار والكبار والزوجات من أجل الوصول إلى بلاد الفرنجة بحثا عن معيشة أفضل. كشفت عن أن رحلات الهجرة غير الشرعية تتحرك من سواحل الإسكندرية ورشيد وكفر الشيخ برعاية من غفر السواحل.

«قبل ما نركب القارب بنرمى بطايقنا وأوراقنا ولما نوصل أيطاليا بقول إن أنا وعيالى وزوجتى سوريين وهربنا من الحرب فى سوريا ونطلب اللجوء الإنسانى، وفعلا بتاخدها وبعدها بتتحرك إلى أى دولة أوروبية، لكن لو انت لوحدك مش هيدخلوك».. ببساطة هكذا لخص الحكاية «إسلام عبدالنعيم» أحد الناجين من المركب الذى غرق قبل شهر قرابة سواحل اليونان وتم إنقاذه بينما فقد أولاده الثلاثه وزوجته. لم يدرك «إسلام» كيف يعانى السوريون عندما يصلون إلى شواطئ إيطاليا، كيف يتعرضون لانتهاكات- بحسب التقارير الإعلامية- ربما حلم الثراء أو روايات كاذبة نقلها له السمسار جعلته لا يرى أو يسمع عن ذلك.

مهاجرون غير شرعيين بعد إنقاذهم من الغرق

بعد تعب يوم طويل من العمل فى بناء أحد المبانى على شاطئ مطروح، اقترب عامل البناء حسام مصطفى وصديقه من الشاطئ لقضاء قليل من الاستجمام فى المياه، ولكنه بمجرد أن وصل للمياه شاهد المأساة: 5 جثث ملقاة على الشاطئ، يبدو أن المياه قذفتهم من بعيد.

3 منهم كانت جثثهم كاملة وآخران كانا أنصاف جثث - يصف حسام المشهد - بينهما طفلان كانا مربوطين فى بعضهما بإيشارب حريمى، أسرع وصديقه بإبلاغ الأمن، حضرت سيارات الشرطة والإسعاف ونقلوا الجثث إلى مشرحة المستشفى هناك.

طبقاً للتحريات الأمنية كانت الرواية الأقرب أنهم من ضحايا الهجرة غير الشرعية، وأن المياه قذفتهم إلى الشاطئ، خاصة أن مثل هذا المشهد تكرر أكثر من مرة خلال الشهر الماضى، وبلغ عدد الجثث التى قذفها البحر خلال يونيو فقط 37 جثة، بينهم 13 طفلاً و7 سيدات و17 شاباً.

بعد شهر تقريباً من إجراء تحليل الـ«DNA» تبين أن 19 منهم مصريون، والآخرين على ما يبدو أنهم أجانب من دول أخرى أفريقية أو فلسطينيون أو سوريون. المفاجأة الكبرى أنه من بين الـ«19» المصريين 3 من أسرة واحدة: الطفلان اللذان كانا مربوطين فى بعضهما البعض وأمهما تم العثور على جثتها بعد أيام على بعد 2 كيلومتر تقريباً على نفس الشاطئ، وتبين أن تلك الأسرة من محافظة الغربية، وأن رب الأسرة يدعى سمير رؤوف، وكان هو وأفراد الأسرة تركوا منزلهم وركبوا مركب هجرة غير شرعية من الإسكندرية، وأن الأب تم إنقاذه عبر مركب يونانى، وموجود حالياً فى اليونان.

«الميكروباص هنا بيعدى فى الشارع وبينده.. حد رايح إيطاليا.. اللى جاى إيطاليا».. هكذا عبر بسخرية «عبد القادر على» أحد أبناء قرية «أبو شلبى» بالشرقية عن كثرة المهاجرين من تلك القرية إلى إيطاليا أو دول أوروبية أخرى.

الهجرة غير الشرعية

«قرية أبو شلبى» التابعة لمركز فاقوس محافظة الشرقية واحدة من عشرات القرى فى مصر التى يهاجر شبابها إلى بلاد أوروبا بحثا عن عمل، عندما تسير فى شارعها الرئيسى، تشعر وكأنك لست فى قرية بمعناها الريفى، تشاهد العمارات الشاهقه إلى جوار البسيطة، والمحال التجارية على مختلف تخصصاتها إلى جوار الأكشاك، والسيارات الجديدة إلى جوار عربات الكارو، وعندما تسأل عن سبب ذلك تعرف أن السبب الرئيسى هو هجرة الشباب للخارج وإرسال الأموال لأسرهم ليتمكنوا من عيشة أفضل، فتلاحظ الفارق بين حال الأسرة التى سافر أحد أفرادها والأسرة التى مازالت تبحث عن فرصة السفر.

«عبد القادر على» ذلك الرجل الذى يبلغ من العمر 55 عاما ويجلس داخل محله الذى يبيع الأقمشة، قال: «القرية معظم شبابها هاجروا فى إيطاليا أو اليونان أو فرنسا، واحد بيشد واحد، وكل يوم ناس بتموت منهم فى مراكب الهجرة غير الشرعية، كل يوم نسمع عويل وصراخ فى أحد البيوت عندما يأتيهم خبر غرق ابنهم، عندما نقرأ على شاشات التليفزيون خبر غرق مركب هجرة تشاهد حالة القلق والتوتر فى القرية، الكل يسأل: حد من القرية كان عليها؟».

وأضاف «عبد القادر»: «كان قرابة 50 واحد من القرية على متن المركب الذى غرق بالقرب من سواحل اليونان فى أول الشهر، ذلك المركب الذى كان يقل 700 شخص، عندما جاء الخبر القرية كلها كانت فى حالة يرثى لها، 6 أسر كاملة من القرية كانت على المركب. اللى مراته غرقت واللى اولاده فقدوا واللى ولاده تم إنقاذهم بس موجودين فى اليونان أو إيطاليا ومش عارف يجيبهم».

«لماذا يأخذ رب الأسرة أولاده وزوجته فى رحلة مهددة بالانتهاء فى قاع البحر؟ ولماذا لا يسافر بمفرده، مثلما يفعل باقى الشباب؟».. بهذه الكلمات واجهت محمد على يوسف- أحد الناجين من هذا المركب الذى غرق فى أول الشهر، فرد بحزن شديد وكأنه يعاتب نفسه «عاوزين نعيش.. كنت عاوز أعيشهم أحسن عيشة. ولكن زوجتى وابنى ضاعوا منى، لا أعرف إن كان قد تم إنقاذهم فى بلد آخر أم أنهم غرقوا فى البحر».

ويكمل محمد الذى حصل قبل 15 عاما على بكالوريوس تجارة وحتى الآن مازال يبحث عن فرصة عمل: «فكرة السفر للخارج كانت تراودنى منذ فترة كبيرة، ولكن ما كنت أسمعه عن الهجرة غير الشرعية وغرق المراكب كان يشعرنى بالخوف، فضلا عن الحكايات التى كنت أسمعها عن إلقاء القبض علينا إذا وصلنا للبر الآخر وترحيلنا وضياع أموالنا».

الهجرة غير الشرعية

محمد الذى يعمل حاليا بائعا فى سوبر ماركت كبير فى فاقوس، كان يجلس مع أحد جيرانه فى القرية وقت أن سمع منه أن السفر إلى إيطاليا أصبح مضمونا مائة فى المائة، انتفض محمد من مكانه وعدل من جلسته، وطلب من جاره أن يوضح له ماذا يقصد بما قال، فأبلغه جاره بأنه سيبلغه بالطريقة الجديدة التى يدخل بها المصريون إلى أوروبا، طلب منه ألا يبوح بذلك لأحد فى القرية حتى لا يزاحمهم فى فرصة السفر إلى أوروبا. أبلغه الجار أنه بعد أزمة اللاجئين السوريين وهروبهم من الحرب فى بلدهم إلى دول أوروبا فتحت بعض الدول حدودها للاجئين السوريين بشرط أن تكون أسرا كاملة وذلك حتى يضمنوا إلى حد ما أن من سيدخلون لن ينفذوا أعمالا عدائية ضد بلادهم.

بكل انكسار وحزن رد «محمد» على جاره: «الكلام ده بالنسبة للسوريين إنما إحنا مصريين». فبادره الجار قائلا: «لا.. إنت هتعمل نفسك سورى.. إنت قبل ما تركب المركب اللى هيوصلك لإيطاليا تتخلص من أى أوراق شخصية ولما توصل هناك قول لهم إنك سورى». فسأل «محمد» بكل أمل وسعادة: «يعنى لو أخذت اولادى وزوجتى هيدخلونى؟».

لم يدرك «محمد» أن جاره كشف له الطريقة الجديدة له ليس من أجل العشرة والجيرة ولكن من أجل أن يفوز بنسبة من المال عن كل شخص يأتى به إلى السمسار الذى يتولى تسفير المصريين إلى الخارج فى قوارب متهالكة.

«كنت أترجى جارى أن يتوسط لى عند السمسار ليعجل من سفرى أنا وأسرتى، بعد أن أكد لى أننا سنسافر على يخت سياحى فاخر وأننا لن ندفع أى أموال إلا بعد الوصول إلى إيطاليا»، بتلك الكلمات كان محمد يتذكر أيام ما قبل السفر. عندما تحدد له موعد أبلغه جاره أن يسافر وأسرته إلى الإسكندرية مساء يوم الخميس الموافق 2 يونيو الجارى، وطلب منه أن ينتظر اتصالا من شخص سيحدد له عبر الهاتف إلى أين سيتجه، معللا بأنها إجراءات أمنية، وقبل دخول محافظة الإسكندرية بقرابة 10 كيلومترات تقريبا إذا بهاتف «محمد» يرن، شخص مجهول يطلب منه أن ينزل من الميكروباص الذى يستقله والأسرة عند نقطة محددة «كشك سجائر» فى مدخل الإسكندرية. انتظر محمد وزوجته وطفلاه لقرابة ساعة ونصف الساعة تقريبا، حتى رن هاتفه مرة أخرى، وفى نفس التوقيت كان ميكروباص يقف أمامه، أمره الشخص المجهول بركوب الميكروباص، كانت الساعة وقتها قاربت على الثانية فجرا، وجدوا فى نفس الميكروباص أسرتين أخريين، وهناك شخص يقود المجموعة، أنزلهم على الشاطئ عند منطقة الجمرك، وإذا بلنش صغير يقل الأسر الثلاثة فى عرض البحر حتى يصل المركب المقصود.

السيد شحاتة

«الغريب فى الأمر أن لانشات من غفر السواحل كانت تقف على بعد أقل من 20 متر من نقطة انطلاقنا، وكانوا يديرون ظهورهم لنا، وعندما أعربت عن خوفى من القبض علينا، رد عليا مسؤول المركب مبتسما- الكل بياكل». هذا هو المشهد الأخير لمحمد وأسرته قبل أن يغادروا الشاطئ. قبلها انتظروا قليلا على المركب حتى جاءت لانشات أخرى كانت تقل أسرا إلى نفس المركب.

انطلق المركب وعلى متنه قرابة 700 شخص تقريبا، مصريين وغير مصريين، أفارقة وسوريين وفلسطينين، صغار وكبار، أسر وأفراد. الظلام كان يغطى الجميع- بحسب رواية محمد- الكل يفترش الأرض، قليل من النوم وكثير من الدعاء بالوصول بسلامة الله، الجميع يحلم بمشهد رؤية البر الآخر، الجميع يحلم ببداية حياة جديدة، حياة فى جنة أوروبا، حياة لا يمكن أن تقارن بحياتهم فى قرية «أبو شلبى» أقصى جنوب الشرقية.

كانت الرحلة تسير على ما يرام فى عرض البحر، وإذا بالمركب يتعطل أكثر من مرة حتى توقف تماما عن السير على بعد قرابة 60 كيلو مترا من السواحل اليونانية، وقتها كان منظر البحر لا يثير غير الرعب والفزع. ولم تفلح محاولات القائمين على الرحلة فى تهدئة الركاب، وبعد توقف قرابة ساعة ونصف الساعة ظهرت بارجة تحمل علم بلجيكا- كما يروى محمد- لوح الجميع لها مطالبين بالإنقاذ، وفعلا اقتربت البارجة وربطت المركب لسحبه إلى أقرب شاطئ على سواحل اليونان، إلا أن جميع الركاب صاحوا رافضين توصيلهم إلى اليونان لأنهم يدركون مصيرهم هناك، إما القبض عليهم أو الترحيل، فإجراءات اليونان ليست كإجراءات إيطاليا فيما يتعلق باللاجئين السوريين.

نص القانون الإيطالى المنظم لحق اللجوء الإنسانى

رفضت قيادة البارجة البلجيكية سحب المركب إلى شاطئ إيطاليا لأنه يكلفهم كثيرا ويعرضهم للخطر، فتركوهم فى عرض البحر، إلا أن الأمواج والرياح جاءت بما لا تشتهى الأنفس، تعرض المركب للغرق، والكل كان يتعارك مع الآخر من أجل الحصول على «جاكت إنقاذ».

«كان كل خوفى وقتها على طفلى وزوجتى».. هكذا يحكى «محمد» وهو متأثر ودموعه تتساقط من عينيه، تمكن من الحصول على جاكت إنقاذ للطفلين، لكنه قبل أن يتمكن من تثبيته فى جسديهما سقطا فى المياه من دونه، وألقى بنفسه وراءهم، وترك الزوجه. المشهد كان مؤلما، الكل يحاول إنقاذ نفسه، الكل يقف إلى جواره من أجل وقت أطول قبل الغرق، لم يتمكن الأب من تتبع طفليه ولا زوجته، جاء مركب بعد ربع ساعة تقريبا، وأنقذه وعددا آخر من الركاب. وسلموه ومن معه إلى مراكب تابعة للقوات البحرية المصرية التى نقلتهم إلى مستشفى فى الإسكندرية وبعدها عاد إلى قريته دون زوجته أو طفليه.

«طوال الطريق كان أحد القائمين على إدارة المركب ينبه علينا بأننا نبلغ السلطات الإيطالية بمجرد وصولنا بأننا سوريون علشان يسمحوا لنا بالدخول». يتذكر الأب ما كان يحدث على المركب قبل غرقه، ويضيف: «تعمدت أن أجلس إلى جوار أسرة سورية كانت موجودة فى المركب، حكيت معهم كثيرا لأتعرف على طريقة كلامهم، وبعض الأماكن فى سوريا تحسبا لأن يسالنى أحد عن عنوان لى أو بعض الأماكن السورية عندما أبلغهم أننى سورى».

على بعد أمتار من منزل محمد الذى فقد زوجته وطفليه، يجلس «محمد» آخر داخل محال توزيع السلع التموينية، قصة محمد الثانى لا تقل مأساوية عن جاره الأول، محمد على شلبى الحاصل على ليسانس لغات وزوجته الحاصله على ليسانس حقوق حالهما الآن لا يسر عدو أو حبيب، فابنتهما التى كانت معهما فى رحلة الهجرة غير الشرعية وهى نفس الرحلة التى كان عليها أسرة جارهم، أصبحت فى عداد المفقودين أيضا.

أما شقيقه «عصام» المحامى الشاب، فقد كرس كل وقته من أجل أول قضية فى حياته، بدء رحلة البحث عن المتهمين فى حادث غرق المركب من أجل إعادة حق ابنة أخيه المفقودة فى مياه البحر لكنه لم يصل إلى شىء، أخوه أو من كانوا معه من القرية لا يعرفون إلا جارهم الذى دلهم على السمسار، ولا يعرفون عن السمسار سوى أن اسمه «أبوعلاء».

يأمل محمد على شلبى أن تكون ابنته على قيد الحياة مثل «سارة» ابنة جاره أحمد محمد السيد والذى كان هو الآخر على نفس المركب الغارق، «سارة» التى تحمل من العمر 9 سنوات كان حظها أفضل بكثير من الذين غرقوا، صحيح أن شقيقيها ابتلعهما البحر إلا أنها وجدت نفسها على مركب إيطالى انتشلها من المياه،، وجدت نفسها وحيدة فى بلد لا تعرف فيه أحدا ولا تعرف على الأقل لغتهم لتبوح لهم عن معلومات قد تساعدهم فى إعادتها إلى بلدها. أودعتها السلطات الإيطالية فى الصليب الأحمر هناك لرعايتها.

شيماء

على الرغم من أنه تم إنقاذ والد «سارة» ونقله إلى أحد المستشفيات فى الإسكندرية، إلا أن قلبه يتقطع كل لحظة لفراق ابنيه اللذين غرقا فى البحر وزوجته التى توفيت بعد ساعات من إنقاذها ونقلها إلى المستشفى وابنته «سارة» الموجوده فى الصليب الأحمر. بينما تولى عم «سارة» ذلك الشاب الموجود فى قرية «أبوشلبى» بفاقوس محاولات للتواصل مع الصليب الأحمر فى إيطاليا للوصول إلى الطفلة، نجح بعد أيام من سماع صوتها. فى كل ليلة يسمح القائمون على إدارة الصليب الأحمر لـ«سارة» للتحدث مع عمها وأبيها من أجل تهدئتها لحين إنهاء الأب إجراءات السفر إليها واستلامها وإعادتها مرة أخرى.

على باب السفارة الإيطالية ينتظر الأب فى كل صباح من أجل الحصول على تأشيرة للسفر إلى إيطاليا واستلام ابنته التى تطالبه بالحضور سريعا فى كل اتصال من أجل إعادتها.

«اعمل نفسك سورى» تلك هى الجملة التى كان يتذكرها «محمد» بين الحين والآخر، ويقول: «كنا نفكر فى ماذا نقول عندما نصل، ولم نفكر كيف سنصل فى مراكب صيد متهالكة.. ضحكوا علينا، وقالوا لنا هنسفركم فى لنشات سياحية».

ويكمل «محمد»: «السمسار قال لى كل يوم بينقلوا أسر مصرية، بمجرد أنهم بيقولوا إنهم سوريون يدخلوهم إيطاليا ويعطوهم اللجوء الإنسانى، ومنها من الممكن أن تتحرك إلى أية دولة أوروبية».

مروة «الأم»

فى محافظة الفيوم كان هناك تطور آخر فى ظاهرة الهجرة غير الشرعية مستغلين الأبناء والزوجات. لم يفهم أهالى قرية «شدموه» ما السبب الذى دعا جارهم إسماعيل عبدالتواب إلى استضافة أسرة سورية بأكملها فى منزله رغم أنه لم يعرفهم. ظن الجميع أنه يساعدهم لظروفهم التى يمرون بها جراء الحرب فى بلادهم، لكن ما كشفت عنه السيدة السورية «سهيلة أحمد» كان مختلفا عما ظنه أهالى القرية، أو على الأقل كان هناك سبب آخر للمساعدة.

«سهيلة» واحدة من الذين نجوا من مركب الهجرة غير الشرعية الذى غرق فى مايو الماضى، وكان على متنه 500 شخص، «سهيلة» وأسرتها المكونة من الزوج وابن 5 سنوات هم من استضافهم إسماعيل عبد التواب فى منزله بالفيوم، وتحمل نفقات سفرهم مع أسرته فى تلك الرحلة التى انتهت بغرق جميع أفراد أسرة «إسماعيل» وزوج سهيلة وابنها، هى وحدها من تلك المجموعة التى نجت. لتعود من جديد إلى غرفتها البسيطة والتى استأجرتها وزوجها منذ قدومهم إلى مصر فى منطقة فيصل بالجيزة.

«تعرفنا على إسماعيل من خلال أحد أقاربه فى العمارة، فوجئنا به يدعونا لزيارة منزله فى الفيوم، منزل بسيط ترددنا عليه أكثر من مرة وبتنا فيها أياما كثيرة، وكان زوجى يساعده فى أعمال نقل بعض البضائع». بتلك الكلمات تحكى لنا سهيلة قصة صعودها وأسرتها على هذا المركب المشؤوم.

سارة

فوجئنا بإسماعيل يبلغنا ب سفره وأسرته إلى إيطاليا وأنه سيأخذنا معه- تروى سهيل- كنا فى شهر إبريل الماضى تقريبا، وقال إنه سيتحمل كل النفقات، وعندما سألنا على التفاصيل فرد بأنه يعرف أحد أصحاب اللانشات الذى سيساعده فى موضوع السفر، قبل السفر بأسبوع تقريبا، أبلغنا إسماعيل بأن السلطات الإيطالية تمنح للأسر السورية حق اللجوء الإنسانى، وقال إنه سيدخل معنا إيطاليا على أساس أنه وأسرته سوريون أيضا، وفهمنا من كلامه أن تحمله نفقات سفرنا مقابل أن نعلمهم اللهجة السورية وبعض الأماكن ونعطيه عناويننا فى سوريا وعندما نصل السواحل الإيطالية نشهد أنهم سوريون فعلا إذا سألنا المسؤولون هناك. وافقنا على ذلك خاصة أننا لن نضار بشىء، وتلك الأسرة المصرية ساعدتنا كثيرا هنا فى القاهرة.

على متن المركب- تحكى سهيلة- كنت أسمع إسماعيل يطالب ابنه الصغير صاحب السنوات العشر، بأن يحفظ جملة أنه من حلب وأنه كان يعيش فى سوريا. غرق المركب وفقدت كل شىء، فقدت زوجى وابنى وعرفت أيضا أن إسماعيل وأسرته أيضا فى عداد المفقودين.

أما بطل تلك المأساة لم يكن موجودا على ظهر المركب الغارق، ولكنه كان الرهينة الذى احتجزه السمسار، لحين أن يصل صديقه إلى إيطاليا وتحويل المبلغ كما اتفقوا قبل أن يتحرك المركب.

«السيد فتحى» أحد شباب قرية «أبوشلبى» بالشرقية، فوجئ بصديقه «السيد شعبان السيد» صاحب الـ«31 عاما» يبلغه بأنه اتفق مع سمسار على تسفيره إلى إيطاليا مقابل 10 آلاف جنيه، وأنه اتفق مع السمسار ألا يحول له المبلغ إلا بعد وصوله إيطاليا حتى لا يتعرض لعملية نصب، وافق السمسار ولكنه اشترط أن يأخذ شخصا رهينة لحين الوصول وتحويل المبلغ.

عمر

فوجئت بصديقى يبلغنى بتلك الرواية المخيفية- هكذا بدأ السيد فى رواية القصة- ويطلب منى أن أوافق على أن أذهب لهم، بعد تردد وافقت بعد ضغط منه، وقال لى إن المبلغ تركه مع خاله ولم يبلغ أحدا من أسرته بما سيفعله، وطلب ألا أبلغهم بشىء إلا بعد سفره، سلمهم رقم هاتفى واتصلوا بى قبل موعد السفر بيوم وطلبوا منى أن أحضر إلى الإسكندرية وانتظرتهم فى أحد الشوارع بناء على طلبهم، وبعدها فوجئت بهم ينقلوننى بسيارة إلى مدينة رشيد التابعة لمحافظة البحيرة والموجودة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، أدخلونى فى شقة فى شارع متفرع من ميدان رشيد، شقة بالطابق الثالث، وجدت هناك 3 أشخاص آخرين كرهائن أيضا، أبلغونا أننا سنظل فى الشقة لمدة 3 أيام تقريبا لحين وصول المركب إلى إيطاليا بعدها سيتم إطلاق سراحهما بمجرد إتمام تحويل الأموال.

نحن كرهائن كنا نأكل معا خلال تلك الأيام- يواصل السيد حديثه- وتعرفنا على بعضنا البعض، أحدهم كان شاب عمره لا يتجاوز 18 عاما سلمه أخوه للسمسار كرهينة، لحين سفره وزوجته وأولاده، وآخر كان والد شاب كان على متن المركب.

مرت الأيام الثلاثة، ولم يتغير شىء، كل فترة نسأل عن مصير المركب ومن عليها، فيبلغوننا أنهم بخير، حتى جاء عصر اليوم الرابع، وطلبوا منا الاتصال بذويهم وتحويل المبلغ، رفض السيد لحين الاطمئنان على صديقه، ومنذ تلك اللحظة وبدأت طريقة أخرى فى التعامل، تهديد بالقتل والذبح إذا لم يمتثلوا لطلبهم بتحويل المبالغ.

البعض شعر بالخوف واتصلوا بذويهم فعلا وحولوا لهم الأموال لكن السيد استمر فى الرفض، نقلوه فى سيارة ملاكى إلى مزرعة سمكية. هناك وجدت رهائن آخرين ومسلحين كثيرين معهم أسلحة آليه. كلما طلبوا منى تحويل المبلغ، أشترط الاطمئنان على صديقى، ولكن مع استمرار التهديد بالقتل، رضخ السيد، واتصل بخال صديقه وبالفعل حول لهم المبلغ، وبعدها تركوه ليعود إلى قريته ليكتشف من جيران آخرين أن المركب قد غرق. ولا توجد أى أخبار عن صديقه حتى الآن اصبح فى عداد المفقودين فى مياه البحر الأبيض المتوسط. والدته وأخوه يسألان كل الناجين عنه والإجابة واحدة: «كان معانا ع المركب ولكن لا نعرف مصيره».

انفوجراف يوضح الهجرة غير الشرعية

عبر رقم الحساب الذى قام خال الضحية بتحويل الأموال إليه، تمكنت «المصرى اليوم» من التوصل إلى البنك الذى تم إليه التحويل وتبين أنه «بنك الإسكندرية فرع رشيد» وأن الحساب لشخص يدعى «أحمد م.ع»، وبتجميع بيانته من خلال رقم الحساب والتحرى عنه عبر جهاز الأمن العام بوزارة الداخلية، تبين أنه متهم فى 45 قضية تزوير ونصب، وأنه على علاقة بشخص آخر يدعى «محمد.أ.ب» والذى يقيم فى قرية «أبوشلبى» وهى القرية التى سافر منها عدد كبير من الأسر، وتبين أنهما على علاقة بشخص ثالث يدعى «أبوعلاء» ويقيم فى الإسكندرية. تلك المعلومات التى وصلنا إليها من خلال الأمن، تطابقت مع ما قاله عدد من الناجين وأسرهم من أن الوسيط الأول فى عملية السفر هو ابن قريتهم، وأن قريبه «أبوعلاء» هو السمسار الثانى، وأن صاحب رقم الحساب هو السمسار الأكبر فى العملية.

على بعد 15 مترا تقريبا من ميدان رشيد وفى شارع صغير، وبمساعدة من الرهينة وصلنا إلى الشقة التى كان محتجزا فيها، ولكنها كانت مغلقة، سألنا الجيران وقالوا إن صاحبها يدعى «عبدالرحمن»، سألناهم عن الأشخاص الذين كانوا يترددون عليها فى الفترة من 3 إلى 7 يونيو – وهى فترة التجهيز وتحريك المركب الغارق – فقالوا إن كثيرين كانوا يترددون عليها، ومنذ يوم 7 يونيو تقريبا لم نشاهد أحد بها.

كل هؤلاء الناجين أو من ابتلعهم البحر توقفت رحلتهم دون أن يصلوا شواطئ إيطاليا، لم يصل أحد منهم إلى هناك ليرى كيف يعامل السوريون الذين يصلون إلى هناك، بحسب تقارير إعلامية وشهادة لسوريين فإنهم يتعرضون لانتهاكات رصدتها بعض المنظمات الحقوقية، لو أن أحدا من المصريين قرأ أو سمع عن تلك الانتهاكات ربما كان قد غير رأيه ولم يعرض نفسه أو أسرته لمثل تلك الانتهاكات. لكن «وليد» ابن محافظة المنيا والذى وصل الآن لألمانيا كشف كيف يتفادى المصريون تلك المطبات، وليد – وهو اسم حركى بناء على طلب صاحبه – أخذ زوجته وابنته وسافر بنفس الطريقة غير الشرعية من سواحل برج مغيزل فى كفر الشيخ، تكلف مبلغ 60 ألف جنيه ثمن توصيله وزوجته إلى إيطاليا.

«لازم تعرف حد عايش فى إيطاليا علشان أول ما توصل هناك ويتم إيداعك مخيمات اللاجئين ياخدك، من غير ذلك هتتعرض فعلا لمعاملة سيئة فى تلك المخيمات». هكذا يحكى وليد الذى خاض التجربة قبل 4 أشهر تقريبا ونجح فى الوصول إلى ألمانيا.

بمجرد أن تصل إلى شواطئ إيطاليا – يحكى وليد – يتم احتجاز الجميع فى الميناء، الكل بيقعد على الأرض وهناك أطباء من الصليب الأحمر بيكونوا موجودين إذا ما تعرض شخص لمرض أو ألم، يرشون مواد مطهرة على الجميع، هذا يستغرق من 7 إلى 10 ساعات، بيسمحوا للأطفال والسيدات بدخول الحمامات والانتقال إلى مكان أكثر راحة للجلوس فيه، بينما الرجال يتعرضون لانتهكات مثل تركهم كل هذا الوقت دون أكل أو شرب.

واحد وراء واحد – ومازال الكلام على لسان وليد– يمر عبر بوابة إلكترونية يتم خلالها إخضاعك للتفتيش، بعدها يخضع للاستجواب من قبل موظفين أمنيين، بيسالوا مثلا: عن الجنسية وكيف حضرت إلى هنا ومن معك من أفراد الأسرة وهل لك أقارب أم لا فى إيطاليا وماذا تريد؟.

أبلغتهم أننى سورى وهربت وأسرتى إلى مصر ومنها ركبنا مركبا وجئنا إلى هنا طالبين اللجوء الإنسانى، بعد أن أخذوا بصماتنا نقلونا إلى مخيمات اللاجئين وأعطونا حق اللجوء، كنت على تواصل مع ابن عمى الموجود فى إيطاليا، حضر وأخذنا إلى شقته وبعد يومين سافرت إلى ألمانيا حيث يقيم شقيقى هناك. «ليس المهم أن أكون سوريا أو مصريا المهم أن أعيش»، بتلك الكمات رد وليد على تخليه عن الجنسية المصرية، مؤكدا أن مئات المصريين فعلوا ذلك خلال الأشهر الماضية والمئات يتمنون أن تأتيهم تلك الفرصة.

ملف كبير من الورق تم وضعه ضمن ملفات كثيرة فى غرفة النسخ بمحكمة استئناف الإسكندرية، على الورقة الأولى منه كتب «القضية رقم 1379 لسنة 2015 هجرة غير شرعية ونصب، الدائرة 3 جنايات الإسكندرية» وإلى أسفل الورقة كتب «اسم المتهم: على عبدالعزيز إسماعيل وآخرين مجهولين». هذا هو ملف إحدى قضايا الهجره غير الشرعية.

فى الصفحة رقم 63 من ملف القضية استجوب محقق نيابة الجمرك المتهم، حكى بالتفاصيل دوره فى تجميع المسافرين على مراكب الهجرة غير الشرعية من القرى وتوصيلهم بالسمسار الأكبر الذى لا يعرف عنه شيئا إلا هاتفه واسمه الحركى، وطبقا للتحقيقات فإن الهاتف ليس له أى بيانات والاسم الحركى لم يساعد فى الوصول إلى باقى السماسرة، فأغلقت القضية على متهم واحد «سمسار واحد» دون الوصول إلى باقى أفراد العصابة.

«باخذ 2000 جنيه عن كل شخص أجيبه للسمسار الأكبر» هذا ما قاله المتهم فى التحقيقات الرسمية، ويضيف: «تم إلقاء القبض على أثناء جلوسى على أحد المقاهى، فوجئت بمباحث الأموال يلقون القبض على، بعد أن أبلغ عدد من الناجين عنى فى حادث غرق مركب وقع فى فبراير 2015».

ويكمل المتهم: «أعيش فى محافظة البحيرة، فى يوم ما قبل 5 سنوات فوجئت بصديق لى فى محافظة الفيوم يتصل بى ويسألنى عما إذا كنت أعرف أشخاصا يعملون فى تسفير الشباب للخارج عبر البحر، فسألت له وتوصلت عن طريق جارى الذى سافر إلى ألمانيا إلى شخص يدعى أبوإسلام هو من ساعده فى السفر، اتصلت به وأبلغته أن هناك أصدقاء لى من محافظة الفيوم يريدون السفر عبر البحر، ومن هنا سارت العلاقة بينى وبين أبوإسلام، اتفق معى أن أحصل على 2000 جنيه عن كل شخص أحضره».

تعرفت على أشخاص كثيرين وتحديدا فى القرى التى يرغب شبابها فى السفر – يواصل المتهم اعترافه – من أجل مزيد من جذب الشباب. فى السنوات الماضية كان كل المسافرين من الشباب، ولكن بداية من أغسطس الماضى، أصبحت أسر بأكلمها ترغب فى السفر وعندما سالت «أبوعلاء» عن تلك الظاهرة فأبلغنى أن إيطاليا تمنح الأسر السورية حق اللجوء الإنسانى نظرا لما يحدث فى بلادهم، وأن المصريين يأخذون زوجاتهم وأولادهم معهم وعندما يصلون إلى سواحل إيطاليا يبلغون المسؤولين هناك بأنهم سوريون للحصول على اللجوء ومن إيطاليا يتحركون فى دول أوروبية أخرى.

«لو طفل أقل من 5 سنوات لا نأخذ عنه أموالا، ولكن لو أكثر من طفل بتعتبر الطفين بأجرة شخص واحد»، عن تكلفة الرحلة يتحدث المتهم، مؤكدا فى التحقيقات أنه فى بعض الأحيان نخفض ثمن تكلفة سفر الشخص إذا كان ضمن عائلة أو أسرة عددهم كبير.

وعلى ما يبدو فقد أدركت الحكومة تلك الظاهرة حيث قالت نبيلة مكرم وزيرة الهجرة والمصريين فى الخارج أثناء وجودها فى إحدى لجان جلسات البرلمان: «إن الهجرة غير الشرعية ملف ثقيل جدا جدا وكانت آخر حوادثه غرق 700 شخص الأسبوع قبل الماضى ونجا منهم 240 فقط ويجرى الآن فرز جنسيات الضحايا لمعرفة المصريين منهم وباقى الجنسيات». وأضافت الوزيرة حيث كانت موجودة فى البرلمان للرد على طلبات النواب فى أعقاب غرق المركب: «أنها – تقصد الهجرة غير الشرعية - أصبحت قضية أمن قومى، ومؤخرا بدأت تظهر فى مصر ظاهرة جديدة هى الهجرة غير الشرعية للأسر، فقد تم اكتشاف هروب 11 عائلة كاملة». وأكدت الوزيرة أن هناك تقريرا عن ظاهرة هجرة الأسر تم إعداده وإخطار الحكومة به. وأشارت إلى أن حل مشكلة الهجرة غير الشرعية بإنشاء مشروعات فى المحافظات المصدرة للظاهرة وأبرزها محافظة المنيا التى تعد أبرز محافظة فى تصدير «القصر» رغم أنها تتمتع بإمكانيات اقتصادية وسياحية عالية.

لكن ما لم تعلمه الوزيره أن «قرية أبوشلبى» وحدها هاجر منها خلال عام 2016 فقط 23 أسرة بالكامل، وقرية «دلبشان» بالغربية هاجر منها فى نفس العام 33 أسرة بأكملها، وفى قرية «شدموه» بالفيوم هاجر منها 9 أسر، وفى قرية «العدوة» بالمنيا هاجر منها 16 أسرة بأكملها. وذلك حسبما رصدته «المصرى اليوم» فى تحقيقها فى تلك القرى، وما خفى كان أعظم فى باقى القرى بمحافظات مصر.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية