x

علي سيد علي أطفال شوارع «محبوسين».. والكتابة «حُلم» علي سيد علي الأربعاء 22-06-2016 22:27


رأيتُهُ في المنام، واعذروني إذا ما قَصَصْتُ عليكم مناماتي، فلم نعد نملك سوى الأحلام لنرويها. الحياة أصبحَت عصيةً على الكتابة، وأظنكم ترون معي: كيف أن الواقع لم يعد تحيطه كلمات أو تُلم به معانٍ.

رأيته في المنام، لا عابسًا ولا ضاحكًا. في محطة مترو سعد زغلول. يرتدي ملابس رسمية، على غير عادته. كان وحيدًا: لا ركاب ولا قطارات ولا موظفين ولا مجندين بالشرطة. وحده كان يرتدي بدلة «مرسومة عليه»، بدا فيها كمطرب أوبرالي يستعد للظهور على المسرح، أو فنان يتأهب لاستلام جائزته في حفل الأوسكار.

لم يلتفت لي. حاولتُ مناداته فلم أعثر على صوتي، بينما كان هو يتخطاني بنظرة محايدة، وكأنه يراني لأول مرة، ولسنا صديقين.

استيقظتُ على وجه صديقي محمد يحيى (المحبوس وأربعة من أصدقائه أعضاء فرقة «أطفال شوارع» بتهمة التحريض ضدالدولة والتآمر لقلب نظام الحكم)، ورأيته مُحِقًّا تمامًا في تجاهله لي، ورأيتني غارقًا تمامًا في تقصيري معه، فشعرتُ بالخزي.

في العام 2013 قبل سقوط الإخوان بشهور، حضرتُ عرضا للفيلم التسجيلي «الشّغِيلة الشقيانة»، أنتجه الصديق يحيى مع مجموعة «ونّاس» للسينما المستقلة. سعدتُ بما أنجزوه بإمكانيات بسيطة، وتعاطفتُ مع انحيازهم للبسطاء، ولم أجامله عندما وصفتُ ما فعله بـ«الشيء العظيم»، ولم أكن أكذب عليه، وقتها، عندما قلت له إنني سأكتب عن تجربتهم. لكنني لم أفعل، حتى اللحظة.

في العام 2014، انشغل عنا يحيى بدروس في مسرح جمعية «الجيزويت» عن مسرح الشارع، وفي المرات القليلة التي التقيته فيها، كان إما ذاهبًا إلى بروفة أو عائدًا منها. كنت أرى في عينيه حماسة حقيقية لذلك النوع من المسرح، ودائمًا ما كان يؤكد لي أن انتشار فرقته وغيرها في الأحياء الشعبية سيكون أكبر دليل على أن ثورةً حدثت. كنت أتركه يسترسل بينما أفكر في كتابة مقال أربط فيه ما رأيته في إسطنبول من انتشار عازفي الشوارع في شارع الاستقلال الشهير المنحدر من ميدان تقسيم، في مشاهد بهيجة، وما أتمناه من انتشار مثل تلك الفرق وغيرها من فرق المسرح، في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به.

كنت سأكتب أن الدولة يجب أن تنظر إلى يحيى وزملائه باعتبارهم نماذج جديرة بالاهتمام والدعم، وأن تعمل على استنساخ تجربتهم، في سياق سعيها لنشر الفن والارتقاء بذوق شعبها. لكنّ الدولة لم تفعل، وأنا لم أكتب.

في أكتوبر من العام 2015 شاهدت عرض «ملابس داخلية»، ضمن مهرجان المسرح القومي، لـ13 ممثلا من الشباب الصغير الذي تخرج من ورش «الجيزويت» لمسرح الشارع، من بينهم صديقي يحيى. بعدها بأيام التقيت الصديق على أحد مقاهي «وسط البلد» ومعه أحد أبطال العرض، عز الدين خالد (أُلقي عليه القبض باعتباره أحد أفراد «أطفال شوارع» قبل القبض على بقية أعضاء الفرقة، وخرج بكفالة). جسده النحيف وملامحه الهادئة وروحه العذبة، تجعل أي شخص يتعاطف معه ويتمناه شقيقا له. كنت لا أزل أتذكر مشهده الأبرز في المسرحية، عندما هدد بنزع لباسه الداخلي أمام أعضاء هيئة التحكيم، فسألته عن مغزى المشهد، فأوضح لي أنهم في «مسرح الشارع» المعتمد، بالأساس، على الأداء الارتجالي، قد يلجأون إلى حيلة بريئة لـ«لَمِّ الناس عليهم»، كأن يهدد أحدهم بنزع ملابسه الداخلية، حتى إذا ما تجمع الجمهور من المارة، بدأوا في أداء مشاهدهم.

بعدها بأيام، ومتأثرا بفلسفة مسرح الشارع، بدأت أكتب في مقال بعنوان: «حكايتي مع مؤخرتي.. كيت كيتكيت». كانت «مؤخرتي» في العنوان «فخًّا» لجر رِجل الزبون القارئ، أما في متن المقال، فلم تكن سوى مؤخرة أب تعرضت لحادث أثناء لعبه الكرة مع ابنه، إذ خدعته «المستديرة» فسحبته بقسوة، فاختار أن يستقبل «الوقعة» بمؤخرته بدلا عن ظهره أو رأسه. كنت سأسرد أحداثا شخصية مرت بي لها دلالات عامة، وكنت عزمت على أن أضع علامة (*) على «مؤخرتي» في العنوان، لأصنع حاشية أشرح فيها أسباب اختياري للفظة، وكيف تأثرت في ذلك بما يفعله «مسرح الشارع». لكني يا يحيى لم أستكمل كتابة المقال، ولم أصنع حاشيةً من أجلكم.

في العام 2016، عندما واجه يحيى ورفاقه صعوبات في تأدية عروضهم المسرحية في الشارع، ابتكر هو وخمسة من زملائه طريقة جديدة للتعبير عن أنفسهم، بتصوير عروضهم القصيرة التي لا تتخطى دقائق معدودات، بكاميرا موبايل أحدهم، وأنشأوا صفحة على «فيس بوك» باسم «أطفال شوارع»، نشروا فيها فيديوهاتهم التي حققت مشاهدة على «يوتيوب» بالملايين.

رأى الملايين أنها مقاطع فيديو ساخرة تثير الضحك على أمراض اجتماعية نسعى لعلاجها، بينما رآها أحد الجاهلين تهديدًا للأمن القومي، فقدم بلاغا في الشباب، على أثره تحركت الشرطة فألقت القبض على «فنانين» صغار السن، وجددت النيابة في 18 يونيو الجاري، حبسهم 15 يوما للمرة الرابعة، وكأنها حائرة: كيف تحيل هؤلاء إلى المحاكمة بتهمة «الفن».

يا يَحيى.. رأيتُكَ في المنام غاضبًا مني، ولك كل الحق، وليَ كامل العار. فلم أكتب عنك وعن زملائك لأطالب بدعمكم، ولا حتى كتبت مطالبا بحريتكم بعد حبسكم. لكن يا صديقي العزيز، ربما يشفع لي عندك، أنني مثلك «طفل شوارع» محبوس في بلد، قرر القائمون على أمره اغتيال الأمل وقتل الفن.. صدقني يا يَحيى: في بلد كهذه تصبح الكتابة عن الحرية شبه مستحيلة، وكأنها حُلم بعيد.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية