x

يوسف زيدان مفاهيم الإيمان يوسف زيدان الثلاثاء 07-06-2016 22:14


من لطائف المصادفات أن يتزامن توقيت نشر هذه المقالة مع ابتداء أيام شهر رمضان، الذى هو عند العوام من الناس شهر الإيمان.. وأقول «عند العوام»، قاصداً أن خواص الناس وأهل الإيمان الحق يعرفون أنه لا يوجد شهر معين يمكن وصفه بذلك، ولا يعترفون بتهريج العوام الذين تدهور على أيديهم معنى شهر الصوم ودلالته، حتى صار مؤخراً «وعلى الرغم من المظاهر الكاذبة» هو شهر الإفراط فى الأكل، والتفريط فى معنى الزهد، ناهيك عن التحول الهزلى، المضحك المبكى، لدلالة هذا الشهر فى الأذهان، من شهر العبادة والإيمان إلى شهر الدراما والمسلسلات، التى تزيد فترة إذاعتها وإعادتها عن قدرة أى شخص على متابعتها، حتى لو كان متفرغاً لذلك.

وقبل الدخول إلى موضوع مقالة اليوم، وبيان دلالات الإيمان وارتباطه بمفاهيم أخرى «إيمانية» مثل: التقى، الورع، التسليم، الإنابة، على اعتبار أن مفهوم الإيمان يرتبط بشكل وثيق بهذه المفاهيم، مثلما يرتبط مفهوم «الإلحاد» ويتماس مع مفاهيم أخرى، كالكفر والتجديف والهرطقة والزندقة، وغير ذلك مما تعرضنا له فى المقالة السابقة «الأسبوع قبل الماضى».. نقول: قبل الدخول إلى تفاصيل موضوع مقالة اليوم، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم «الصوم» يرتبط بدائرة «العبادة» لا الإيمان، لأن هناك رخصة شرعية تجيز عدم التزام المسلم بصيام شهر رمضان، «الذى كان يأتى فى الخريف» إذا كان الشخص مريضاً أو على سفر أو غير قادر على احتماله أو يطيقه، بحسب التعبير القرآنى، فهو فى تلك الحالات لا يصوم ويقوم بدفع فدية مالية، من دون أن يقدح ذلك فى إيمانه.. كما تجدر الإشارة إلى نقطة أخرى، رقيقة، هى أن معنى الصوم عند خواص الأولياء يتجاوز معناه عند العوام، أى يتخطى «الامتناع» عن الأكل والشرب والنكاح، إلى ما يعرف عند الصوفية بصوم القلب، أى «الامتناع» عن رؤية ما سوى الله، إذ إنه «الموجود» الوحيد وما سواه أوهام تستعير حضورها منه، سبحانه وتعالى، وتقوم مؤقتاً به، وقد كتب الصوفى البديع «عمار البدليسى» كتاباً بعنوان: «صوم القلب»، أبان فيه عن هذه المعانى الرقيقة الكامنة فى رؤية الصوفية للصوم، وهى الرؤية التى أجملها الصوفى العارم «عبدالكريم الجيلى» فى قصيدته المسماة النادرات العينية فى البادرات الغيبية، حيث يقول: صيامى هو الإمساك عن رؤية السوى، وفطرى أنى نحو وجهك راجع.

عموماً، فسوف نعود للكلام تفصيلاً عن مفهوم التصوف، فى مقالتنا بعد القادمة، التزاماً بما نقوم به من نشر «مقالة فكرية» فى أسبوع، وفى الأسبوع التالى «قصة قصيرة» لتكون هذه اللقاءات الأسبوعية، كل أربعاء، جامعة بين الفكر والأدب.. وسوف يأتى توقيت المقالة القادمة متزامناً أيضاً مع شهر رمضان، وفيه مناسبة بين الأقوال والأحوال.. على اعتبار أن شهر رمضان لايزال فيه بقية من الرحيق الروحى الذى يمتاز به التصوف.. والآن نعود للكلام عن مفهوم «الإيمان» والمعانى المرتبطة به.

■ ■ ■

من حيث الدلالة اللغوية العامة، فإن الإيمان هو الاعتقاد القوى، بصرف النظر عن موضوع الاعتقاد، ومن هنا يجوز لغوياً أن نقول: الإيمان بالحرية، الإيمان بالوطن، الإيمان بالقيم العليا «الحق، الخير، الجمال».. وهكذا، وقد يقال إن فلاناً يؤمن بقداسة الأنوثة، أو الأمومة، أو الحياة من أجل الآخرين، وغير ذلك من الاعتقادات العامة، غير أن اللفظة ارتبطت فى الأذهان بالدين تحديداً، فصارت كلمات: إيمان، مؤمن، مؤمنة، مؤمنون، مؤمنات.. تعنى تحديد الاعتقاد الدينى القوى، بصرف النظر عن طبيعة هذا الدين أو ذاك، ومن هنا نرى فى التاريخ المسيحى تلك المقابلة بين «المؤمنين والهراطقة» ونجد التمييز بين عموم المؤمنين بالمسيحية والمؤمنين بالعقيدة القويمة «الأرثوذكس».

ثم حدث تطور دلالى «إيتومولوجى» لكلمة «الإيمان» فى الثقافة العربية، فصارت الكلمة تخص الذين يعتقدون فى صحة الدين الإسلامى، ولا ينتابهم الشك فيه، وقد تأكد هذا المعنى وتم تكريس الدلالة الإسلامية لكلمة «الإيمان» عبر مجموعة تعريفات محددة، منها ما ورد فى بداية أول سور القرآن فى المصاحف المطبوعة «سورة البقرة»، التى تأتى بعد الفاتحة مباشرة، وتستهل آياتها بقوله تعالى إن المتقين، هم المؤمنون بالغيب وهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويصدقون القرآن والكتب السماوية التى نزلت من قبله، ويعتقدون فى «القيامة» اعتقاداً يقينياً.. تقول الآيات: ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة.. إلى آخر الآية الثانية.

وفى القرآن الكريم، أيضاً، تعريفات أخرى للإيمان والمؤمنين، منها ما ورد فى سورة البقرة نفسها حيث جاء: المؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. ثم تضيف إلى التعريف، أن المؤمن لا يفرق بين الرسل «الأنبياء» ويقول مع القائلين: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

وفى الحديث النبوى تعريف محدد للإيمان: هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل.. وهو حديث رواه كثيرون ورفضه كثيرون من أهل الحديث، لكن ذلك لم يمنع انتشاره وذيوعه حتى صار من مشهور الأحاديث، وهناك زيادات فى الحديث، قبل وبعد العبارة التى أوردناها، وهناك اشتباك بين أسنة محدثى السنة فى صحة إسناده، لكن المعنى الوارد فى عبارة «ما وقر فى القلب وصدقه العمل» تحظى بقبول عام ولا تثير أية اعتراضات، ربما لأنها تطابق ما جاء فى صريح الآيات القرآنية، من أن الإيمان لا يقتصر على الاعتقاد القلبى بصحة الأمور الدينية «الوحى، البعث، الرسالة» وإنما يقترن بعمل الجوارح والأعضاء، أى بالعبادة: يقيمون الصلاة، يؤدون الزكاة.. إلخ، يعنى أن الإيمان اعتقاد وقول وفعل، بل هو انقياد تام للأوامر الإلهية الواردة فى صحيح الدين: سمعنا وأطعنا.

ومن هنا، تطور مفهوم الإيمان من دلالته العامة، إلى الاقتصار على المعنى الدينى، إلى تجاوز الاعتقاد القلبى إلى الفعل التطبيقى، إلى الانقياد التام.. وطبعاً، ها هنا خطر شديد! لأن الانقياد إلى غير الصحيح من الدين، مدمر! وأصحاب المذاهب كلهم يؤكدون أنهم هم وحدهم الذين يعرفون صحيح الدين، وغيرهم على الباطل أو هم المنحرفون «الضالون، الكافرون» وبالتالى فإن «المؤمن» بهذا المذهب أو ذاك، عليه أن ينقاد لما يقرره كبار هذا المذهب أو ذاك.. وهكذا يتحول الإيمان من خبرة روحية ترتقى بالفرد، إلى جعله فى بعض الأحيان قنبلة موقوتة قد تنفجر فى وجه المعارض والمعترض والمختلف.

ونظراً للارتباط بين مفاهيم الإيمان والتقوى والسمع والطاعة والانقياد، وهو ما تؤكده نصوص دينية لا حصر لها، فإن مفهوم «الإيمان» صار اليوم من أهم المفاهيم وأكثرها خطورة، وهو ما يقتضى البحث فيه بإمعان.. ولا أريد أن أطيل، نظراً لأنها أيام صوم وانشغال بال! ففى هذا القدر كفاية، كيلا تغضب منى ملايين المصريات اللواتى صارت أسماؤهن وأسماء قريباتهن، بعد هوجة موجة الإسلام السياسى: «إيمان».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية