ما زالت المهندسة والأديبة العراقية «ريم عبدلى» تواصل إتحافنا بهذه القصص الحزينة المنتزعة من عالم الحرب العراقى.
■ ■ ■
«تقف فى مطبخها المتواضع تقلى قليلا من البطاطس. تعلم أن صغيرها بعد قليل، سوف يأتى وتتجمع سعادة الدنيا فى عينيه وهو يأكلها ساخنة طازجة. طفلها الذى يبلغ تسع سنوات. تعيش من أجله. ليس لها فى الدنيا سواه. اختفى أبوه أثناء الحرب. ذهب ولم يعد. قُتل أو اُختطف أو مات، النتيجة واحدة. بحثت عنه فى كل مكان. لم تجد له أثرا فى مركز شرطة أو مستشفى. حزنت حتى انقصم ظهرها، ثم تذكرت أن لديها طفلا يحتاجها. لو ماتت أو مرضت فماذا سيكون مصيره غير الشارع؟
وقفت على قدميها وقررت أن تربيه وحدها. تأخذه إلى المدرسة صباحا ثم تذهب إلى البيوت للخدمة. وظهرا ترجع قبلما يصل لتقلى له البطاطس التى يحبها. وحينما تتفضل عليها إحدى سيدات البيوت التى تخدم عندهم فتعطيها بقايا لحم أو دجاج، فإنها لا تذوق الطعام وإنما تحتفظ بالأكل المُنعّم من أجله.
■ ■ ■
وحين ترى ابتسامته تشرق فى وجهه تنسى حجم مأساتها. وحين تأخذه فى حضنها ليلا تنسى الوجع. تنسى الفقر والجوع والحزن والحرب والخدمة فى البيوت والذل والظلم وآلام المفاصل ولوعة الحرمان. تنسى كل ذلك حين تشم رائحته.
حتى الآن ينام فى أحضانها. بلغ التسع سنوات وبقى فى عينيها ابن التسعة شهور، وها هى تسرح فى أفكارها وتنتظره. لقد حان موعد مجيئه.
■ ■ ■
وفجأة سمعت صوتا يدوى حتى كاد أن يشق صدرها. فى البدء توقعت أن البيت قد وقع على رأسها. لكنها بعد لحظات أيقنت أنه صوت انفجار إحدى المفخخات القريبة. هرعت إلى الخارج لتنظر ماذا حدث. فوجدت الدنيا مليئة بالغبار والنار، ورائحة الدم فى كل مكان، وأشلاء ممزقة تترامى على الأرصفة.
جزعتْ. تذكرتْ أنه موعد قدوم طفلها من المدرسة. صارت تجرى بين النيران وأكوام الأنقاض وأشلاء البشر باحثة عنه. جنت. لم تفطن أنها تركض وهى حافية فوق الجثث. لم تشعر ببرودة الدماء تحت قدميها ولا بحرارة البارود. كانت فى عالم آخر بعيد عن قدميها الممزقتين المليئتين بدماء وبقايا الناس حتى عثرت على فردة حذائه. فعلمت أنه هنا. نعم. فى مكان ما من تلك الملحمة. تحت أكوام من نار أو يكون قد ذاب. أصبحت كالمجنونة تبحث عنه قرب فردة حذائه وتنتحب بلا صوت، فقد انخنق صوتها.
■ ■ ■
وفجأة وجدته تأكل النيران آخر بقاياه. نعم. إنها تعرف هذه الأصابع. هذه القدم التى قبلتها ملايين المرات! إنها تعرفها.
■ ■ ■
وكان آخر ما شاهده الناس، وتعجبوا منه فيما بعد، ونقله التلفاز ومواقع الاتصال، هو مشهد تلك المرأة التى فقدت عقلها فراحت تقتحم النار وهى تضحك. ثم شاهدوها تدخل فى كومة من أنقاض مشتعلة تحتضن أشلاء صغيرة رمادية، وهى ما زالت تضحك. وحتى حين بدأت النار تلتهم جسدها، وتغيب وسط الزهرة البرتقالية المتأججة، فإنها ظلت- حتى اللحظة الأخيرة- قبل أن تلفظ آخر أنفاسها، وهى تضحك وتضحك وتضحك».