دخلت السيدة الجميلة تحمل أوراق التحاليل فى غير اهتمام. وكأنها تعلم مسبقا أنها ستكون طبيعية مثل عشرات التحاليل الأخرى. وكأنها تسمع صوت الطبيب مقدما: «جسدك على ما يرام. مشكلتك فى اصفرار أوراق شجرة روحك».
■ ■
جميلة كألوان الشروق، مريحة للنظر كالوديان الخضر، ممشوقة القوام. توشك أن تلامس منتصف الأربعينيات ولكنها تبدو فى بداية الثلاثينيات. من صفوة المجتمع القاهرى المخملى. أما مشكلتها والتى بسببها عرفت الطريق إلى عيادة هذا الطبيب النفسى فيلخصها قول المتنبى الحكيم الذى نفذ إلى أعماق النفس البشرية كما ينفذ إليها أحد: «ومن يكن ذا فم مريض/ يجد به مرا الماء الزلال».
■ ■
وكان هذا هو الوضع باختصار. كل شىء فى حياتها بلا مذاق تقريبا. هكذا قالت للطبيب النفسى فى حرارة وقد ظهرت على وجهها ملامح القهر، ملامح من ظُلمت ظلما بينا. قالت له فى نوبة تأمل إن الحياة عادلة وإن لم تبد كذلك! فالفقر يصاحبه شغف عميق بالمتع الصغيرة، والثراء يلازمه الركود العظيم.
تعرف إنها تبدو للآخرين وكأنها بلا مشكلة. امرأة جميلة ثرية، لا تكف عن الأسفار وتحفظ مدن أوروبا كما تعرف راحة يدها.
■ ■
على أن وجه الطبيب تجهم بمجرد قراءة التحليلات. وبدت فى عينيه نظرة حيرة التقطتها السيدة الجميلة على الفور فسألته عما بها؟ وكان الرد الصادم بإحالتها لطبيب الأورام.
■ ■
ما أعجب تقلبات الحياة. انقلبت حياة السيدة الجميلة فى غضون ساعات قلائل. هى مصابة بمرض نادر ومميت كما تؤكد الفحوصات. انقلبت من الحيرة الوجودية إلى التهديد بالموت فى خلال دقائق!
ونصحها هذا الطبيب باستشارة طبيب آخر. وفى كل مرة يتوهج الأمل ثم يخبو بمجرد مراقبة ملامح الطبيب وهو يطالع التحليلات. وهكذا لم يبق لها إلا الاستسلام لنذير الموت والنظر بعين جديدة للحياة، تختلف كل الاختلاف عن عينها السابقة.
والذى أدهشها أن طبيبها النفسى، الذى كان شغوفا بها، لم يعد يرد على اتصالاتها. فهل لأنه أدرك أنها شمس غاربة هو الذى ما شغفه بها إلا ألوان الشروق! وقالت لنفسها: «ألم يكن الأغريق يعتبرون الموت– فى حد ذاته- عقابا؟ ألم يقل الشابى: هو الكون حى يحب الحياة/ ويحتقر الميت المندثر».
اليوم تتمسك بأهداب الحياة ولشد ما تمنت لو استيقظت فوجدت أنه مجرد كابوس مزعج، ولشد ما تتوق إلى حياتها القديمة. فهل لا بد لنا أن نفقد كل شىء حتى نتعلم كيف نحب الحياة؟
■ ■
وبين اليقظة والنوم، والواقع والخيال، والحقيقة والأسطورة، رأت أنها استطاعت الاتصال بطبيبها النفسى الذى هجرها بمجرد أن عرف أنها ميتة. قالت له وهى تشرق بالدموع: «إنها الآن أدركت الحقيقة. كل ما مر بها فى الأيام الماضية من شدائد تقتلع الجبال، كل التحاليل المنذرة بالموت والمصير الأسود المكفهر، كل ما مرت به مع الأطباء لم يكن أكثر من خدعة، تآمر عليها مع باقى الأطباء ومع معمل التحاليل وقسم الأشعة لعقابها. لأنها لم تدرك النعمة القصوى للحياة، ولأنها لم تكن راضية!»
وبرغم أن الطبيب ظل صامتا، ولم تسمع سوى صدى أنفاسه اللاهثة، وبرغم أنها توسلت إليه أن يطمئنها، وأخبرته أنها نادمة، وأنها نالت عقوبتها، وبرغم أنها توسلت إليه أن يمنحها أملا واحدا بالحياة، وبرغم أنها أجهشت بالبكاء فى سماعة الهاتف، إلا أنه لم ينبس بكلمة واحدة.