صناعات كثيرة برع فيها المصريون وأذهلوا العالم بنجاحهم فى أدائها وتطويرها واستثمارها، ربما كان أبرز تلك الصناعات «صناعة الطوابير» وهى صناعة قديمة جديدة مارسها البعض على سبيل الهواية والتسلية بينما مارسها البعض الآخر باعتبارها عادة أو فنا أو عملا، ومن فرط الاهتمام بها صارت الصناعة الشعبية الأبرز والأهم، فوجدنا منها أشكالا وأحجاما وأنواعا، وجدنا منها طوابير طويلة ودائرية، طوابير واقفة وجالسة ونائمة، طوابير من أجل الحصول على رغيف العيش أو أنبوبة البوتوجاز أو بنزين 80، طوابير أمام مكاتب السفريات والسفارات للحصول على تأشيرة حج أو عمرة أو عمل أو سياحة، طوابير أمام المصالح الحكومية ومكاتب البريد وإدارات المرور والسينمات والمجمعات الاستهلاكية، لكن المدهش أن نجد هذه الطوابير تُصنَع طلبا للفخامة والفخفخة والعيشة الهاى لوكس، أن نجد هذه الطوابير تُصنَع فى وقت عزت فيه السلع وارتفعت أسعارها بشكل جنونى وأصبح الحصول عليها حلما بعيد المنال.
فى يوم السبت الماضى أُعلِن فتح باب الحجز فى أول مشروع سكنى تطلقه وزارة الإسكان بالشراكة مع القطاع الخاص، والمشروع عبارة عن مجتمع عمرانى متكامل يضم 18 ألف وحدة سكنية سيقام على مساحة 500 فدان بالقاهرة الجديدة، يحتوى على وحدات تحمل مميزات الفيلات لكن بمساحات الشقق، كان المقرر أن يكون سعر المتر فى هذه الوحدات 7 آلاف جنيه لكنه نظرا لزحام الناس وتوافدهم من كل صوب وحدب منذ فجر ذلك اليوم على مقر الشركة بمدينة نصر وتنافسهم على صدارة الطوابير ليكونوا فى طليعة المتقدمين لحجز الوحدات ونظرا لأن العرض أقل بكثير من الطلب، فقد قرر القائمون على المشروع رفع سعر الوحدة من 7 آلاف إلى 8 آلاف جنيه للمتر الواحد ليبدأ السعر الإجمالى للوحدة من مليونى جنيه إلى أكثر من 5 ملايين جنيه حسب المساحة، وهو مبلغ كنت أظنه حتى ذلك اليوم مبلغا كبيرا يصعب توفيره إلا على رجال المال والأعمال ويتعذر على كثيرين امتلاكه لكن المفاجأة أنه موجود لدى قطاع ليس بالقليل، قطاع قادر على صنع طوابير لا تختلف كثيرا فى كثافتها وطولها عن طوابير الإسكان الاجتماعى، قطاع يصعب معرفة مكوناته، كيف بدأ؟ ومن أين جمع كل هذه الثروة؟ وإلى أى طبقة ينتمى؟ هل ينتمى لطبقة النصف فى المائة؟ بالطبع لا أظن، لأن أبناء هذه الطبقة لا يعرفون ثقافة الطوابير ولا يحترمونها ولا يقدرون على تحملها، هل ينتمى للطبقة المتوسطة؟ وأين هى بعد انفتاح السادات السداح مداح وسياسة مبارك الفاشلة التى أدت للزواج الآثم بين المال والسلطة؟ هل ينتمى للطبقة الفقيرة؟ لا طبعا، لأن أبناء هذه الطبقة لا يملكون ما يقيمون به أودهم ويصطفون فقط فى طوابير بحثا عن الزيت والسكر والأرز واللحوم بأسعار ممكنة الاحتمال، إذن من هؤلاء؟ وهل يشترون فعلا لصالحهم أم لصالح غيرهم؟، أنا هنا لا أنتقد المشروع خاصة أنه مجهز بأحدث الوسائل التكنولوجية ومحاط بمساحات خضراء تزيده بهاء وجمالا خاصة أنه يعطى انطباعا بأن مصر آمنة مستقرة يمكن الاستثمار فيها، لكن لى عدة ملاحظات أخرى أهمها:
أولا، أن هذا المشروع هو نتاج تعاون بين القطاع العام والخاص ومن المفترض أن يصب فى صالح عموم المصريين، فهل تحقق هذا الصالح بعرض هذا النوع المستفز من الشقق والفلل فى هذه الأوقات؟ وإذا كانت بداية التعاون بهذه الصورة فما الذى سوف نجنيه بعد 5 سنوات؟.
ثانيا، إذا كان بناء هذا النوع من الشقق بمثابة خطوة على طريق التنمية المستدامة فهل يصح أن تقتصر هذه التنمية على الشقق والفيلات الفارهة؟ ثم أين تطوير التعليم؟ وأين الأدوات الكفيلة بزيادة الإنتاج الزراعى والصناعى؟ وكيف يمكن مواجهة مسلسل إهدار الموارد الذى لم يتوقف بعد؟.
ثالثا، إن التكالب على هذا النوع من الشقق يعطى انطباعا بضرورة عمل إحصاء دقيق لمعرفة الفئات الأولى بالرعاية من غيرها، خاصة أن المظاهر تشير لوجود أموال كثيرة تظهر فقط عند الضرورة وسرعان ما تتبخر بمجرد تلاشى تلك الضرورة.
جدير بالذكر، أن فتح المرحلة الأولى لحجز تلك الوحدات بدأ وانتهى فى نفس اليوم فى مشهد لا أظنه تكرر فى أى من بلدان العالم المتقدمة أو النامية وبنسبة إقبال لا يستطيع تحقيقها سوى الفراعنة الذين لا يعرف معظمهم شيئا اسمه المستحيل ولم يعجزوا أمام دفع مقدمات حجز تراوحت بين ربع مليون وأربعة ملايين جنيه ولم يستحوا من الوقوف فى طوابير ممتدة للظفر بتلك الوحدات، فأبشروا يا أهل المحروسة فطوابير الخبز قد أصبحت موضة قديمة وزمن شهداء الخبز قد ولى وانتهى، وشهداء الفيلل قادمون.