فى ظل الأجواء الإيمانية التى تعيشها الأمة الإسلامية، حيث نحتفل جميعا بعيد الأضحى، بعد الوقوف على عرفة، وأداء شعائر الحج، صدر حديثا عن المركز القومى للترجمة كتاب «رسومات الحج: فن التعبير الشعبى المصرى عن الرحلة المقدسة»، والذى حرره أفون نيل، وتصوير آن باركر، وترجمة حسن عبدربه المصرى. والكتاب يعد دراسة موسعة عن فن الرسومات الشعبية على جدران البيوت الذى يجسد احتفال المصريين الخاص بالحج.
يضم الكتاب الذى صدرت طبعته الإنجليزية عام 1995، كما أصدر قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة طبعة منه العام الماضى، 150 صورة لمجموعة من هذه الرسومات التى قال عنها الكتاب إنها تعكس الإخلاص الدينى الذين رسمت من أجلهم، كما توضح موهبة الفنانيين الفطريين الذين رسموها، وهى تتحلى غالبا بتصورات أكثر التصاقا بالخيالات الشخصية.
يقول أفون نيل المتخصص فى الفنون الشعبية العالمية: «لا يقطع المسافرون داخل مصر مسافات طويلة دون أن يصادفوا فى طريقهم منازل تغطى جدرانها برسوماتها بسيطة غاية فى الإبداع، وتزينها خطوط لكتابات عربية غالية فى الإتقان، هذه هى منازل الحجاج أو مساكن الأتقياء من المسلمين الذين سافروا إلى مكة المكرمة، الأعداد الكبيرة من هذه الدور تزين سنويا بالصور المرسومة احتفاء بعودة الحجاج، وهذه اللوحات لا تعد من قبيل التذكير بالرحلة المقدسة فقط، بل تعكس نماذج ملونة من فن الرسم الشعبى الحديث الأكثر شهرة فى عموم محافظات مصر كلها».
وقد عمد نيل إلى شرح الرسومات التى ضمها الكتاب بأسلوب بسيط وبليغ دون أن ينسى الإشارة الى أسماء الفنانين الذين أبدعوها والذى خصص لهم الكتاب فصلاً من فصوله، يكتب شارحاً أحد الرسومات «هذا الرسم الذى يبدو فيه وجه الحاج مُفعماً بالرضا والحبور ويعكس جوهر المسلم الذى يتوجه أثناء صلاته خمس مرات ناحية بيت الله المغطى فى الصورة بالستائر داكنة اللون، لذلك يعد الفنان مالك زعيم فنانى رسم لوحات الحج فوق واجهات البيوت، بسبب إحساسه المرهف عندما يقوم بالتصميم، وأيضاً بسبب خيوطه الانسيابية وعنايته برسوماته وأسلوبه المبتكر فى التعبير عن خيالاته». قدم للكتاب روبرت ايه فيرنا الأستاذ بجامعة تكساس بولاية ايستون، الذى أشار إلى أن رحلة الحج إلى مكة تعد «من أعظم التجارب فى حياة المسلم، لأنها تعتبر إنجازا لشعيرة تحض عليها آيات القرآن الكريم، بشرط ألا يترتب على القيام بها مصاعب أو مضار تنعكس سلبا على أسرة الفرد الذى عزم على القيام بها، لهذا يقوم غالبية المسلمين برحلتهم هذه فى أواخر سنوات عمرهم، عندما تكون ظروف الأسرة المالية قد أصبحت يسرا، واستقرارا، وأمنا، وبالنسبة للسيدات، عندما يكون الأولاد قد أضحوا أكثر استقلالية فى حياتهم عن أمهاتهم»
ويلاحظ أن رحلة الحج تمثل بالإضافة إلى أداء الواجب الدينى، نوعا من الأبهة الاجتماعية، وهى تؤكد أن رب الأسرة قادر على تلبية الحاجات الأساسية لأسرته، أو أن هذا الشخص قد بلغ مرحلة من النجاح فى حياته الشخصية تؤهله للقيام بواحدة من التكليفات التى فرضها الله عليه.
ويشير فيرنا إلى ما شرح عالم الانسانيات فيكتور تيرنر باستفاضة عن التغييرات الطبيعية التى تلم بالحاج أو يتعرض لها عقب قيامه بأداء هذه التجربة، وإلى نوعية المشاعر التى تترتب عليها، والمكانة الاستثنائية التى يحظى بها الحاج مظهريا واجتماعيا عبر الزمان والمكان، أما الأهل والأقارب فينظرون إلى رحلة مكة المكرمة باعتبارها مناسبة مبهجة لإبداء المشاركة الوجدانية من جانب أفراد أسرة الحاج أو الحاجة أو أصدقائهم، خصوصاً بعد أن استحق العائدون منهم أن ينعموا بالألقاب التشريفية التى تطلق عليهم، وتظل لصيقة بهم ما بقى لهم من عمر. أما مجتمعاتهم الكبيرة فيتزايد مقدار احترامها لهم لأن تجربة الحج فى نظرهم تمنح من أدوها إحساسا متجددا بمكانتهم على قدر اتساع هذه المجتمعات، وأيضا على مستوى الأمة التى ينتمى إليها المسلمون كلهم. ويرى روبرت فيرنا أن المشاهد التى تعبر عنها الصور المرتبة التى يعرضها الكتاب، لابد أن توضع وفق رؤية فنية ذات مغذى لأنها من وجهة نظر مبدعى رسومات الحج، تعكس عرضا واقعيا لمدى التغيير الذى لحق بحياة الحجاج من أبناء المجتمع، مؤكداً أن تقليد إبداع الرسومات التى تعبر عن أروح اللحظات فى حياة الأفراد مظهر قديم من مظاهر الحياة فى وادى النيل. فى المقابل «ربما يكون التعبير عن تجربة روحية عن طريق رسم مشهد من مشاهدها فوق جدار منزل أحدهم أمرا غربيا عند أبناء الحضارة الغربية لكن علينا أن نتذكر أن طلاء سيارة المتزوجين حديثا فى أمريكا بالكيفية المتعارف عليه هى أيضا تعبر عن الحياة الجديدة التى سيعيشونها، وتعبير يعكس رغبة أصحاب كلتا التجربتين فى إشعار أصدقائهم والأغراب عنهم بحياتهم الاجتماعية الجديدة».
وقد أوضحت المصورة آن باركر التى التقطت صوراً فوتوغرافية متميزة لرسومات الحج على جدران بيوت المصريين مشاعرها التى دفعتها للقيام تؤكد أن هذه الرسومات أدهشتها للمرة الأولى التى لمحتها فيها بعينها من نافذة قطار عام 1985: «لقد بُهت بمرأى هذا الجمال البسيط المفعم بالحياة، والذى يتحدى الزمن فوق حائط بيت من بيوت قرى الريف المصرى النائية. وبعدما تعرفت على القوة الدافعة التى تقف وراء هذه الرسومات، لم أقدر على مقاومة نداء تعريف العالم الخارجى بها. لقد اقتنعت بأنها فن تقليدى شعبى له تاريخ استثنائى».