بكامل هيبته تدلى من أعلى أدوارها لأدناها، وكأنه رغم شموخه ينزل تواضعاً لاستقبالهم ومشاركتهم فرحة تسلم وحداتهم السكنية الجديدة، إنه «علم مصر»، الذى زين واجهات عمارات مشروع «الأسمرات»، فى مرحلتيه الأولى والثانية، الذى سلم خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسى قرابة 11 ألف وحدة سكنية، يزوغ أمامها بصرك، حيث وصفها القائمون على المشروع فى صندوق «تحيا مصر» بنقلة حضارية غير مسبوقة.
لم يكتف المشروع بإعادة تسكين الأهالى، بل حرص مخططوه على أن ينقلهم لمجتمع متكامل، يضم المدارس والملاعب، ورعاية صحية، وخدمية تجارية، تكفى احتياجات تلك الأسر، ولا تدع لهم مجالاً أو حاجة للخروج خارج المدينة، من أجل تلبية أى من مطالب الحياة الأساسية.
مدينة حضارية متكاملة الخدمات تنقل قاطنى «الشهبة» من حافة الجبل لـ«العالمية»
هكذا تم وضع خطة المشروع تنموياً وعمرانياً، بلغت تكلفته قرابة 1.5 مليار جنيه، إلا أن للمشروع قيمة إنسانية أخرى لا يقدر ثمنها بمال، وهو المساهمة فى تأمين أرواح الأهالى البسطاء، الذين حالت ظروفهم المعيشية دون توفير مسكن آمن، فأصبح الجبل مأواهم، يحمل لهم مئات المنازل، إلا أنه وقف عاجزا عن حمل ولو وعد بسيط بتأمين استقرارهم فوقه. فى جولة كانت أشبه بكونها مقارنة بين واقع الأهالى الحالى فوق الجبل، وحالهم عند تسلم السكن الآدمى، الذى وفره لهم المشروع، تجد نفسك أمام لوحة واقعية، تبددت من الأسود إلى الأبيض، وإن كانت لا تخلو من تفاصيل إنسانية، عاشتها «المصرى اليوم» فى جولتها بصحبة عدد من قيادات المشروع والمحافظة.
مشارف لجبل صخرى حجرى، تبدو ملامحه واضحة لجميع من يقف أمام مقر حى منشأة ناصر، الذى يضم قرابة 307915 نسمة، حسب تقديرات الإدارة العامة للمعلومات والتوثيق حتى فبراير الماضى، يعمل أغلب أهالى الحى فى المجال الحرفى، ولذلك وجدوا فى مساحات الجبل الشاسعة والخالية مجالا لبناء منازل، تسعهم وأولادهم وورشهم، التى هى فى الأساس مصدر دخلهم.
منازل فى أبهى صورها لن تجدها تتجاوز الدورين، مبنية على سطح الجبل، لا أساس لها بين ثنايا صخره، تعلوها أسقف خشبية، تحمل عروقها حجرة أو حجرتين على الأكثر، هى فى الغالب سكن لأبنائهم، الذين قرروا الزواج وبناء أسر جديدة.
هكذا تحول المنزل رغم كل مخاطرة إلى نموذج لحياة كاملة، تضم السكن وصحبة الأبناء والأحفاد، ومصدر الرزق، ولم يكن من السهل إقناع هؤلاء بضرورة إخلال المنزل، لهدمه أمام أعينهم والانتقال لوحدة بديلة.
وأمام صرامة قرار المحافظة بضرورة الإخلاء، خاصة بعد تكرار حوادث انهيار قطع من الصخر كان لابد من التواصل مع الأهالى لإقناعهم بضرورة القبول بالانتقال للحياة الجديدة، حيث عاش سكان الجبل معاناة إنسانية فى التواصل مع الجهات الإدارية، كى يحصلوا فى نهاية الأمر على سكن يضمن الحياة الآمنة دون أن يخل بمصدر الرزق. هنا فوق المنحنى الصخرى الذى استدار فى شكل بديع داخل تجويف ببطن الجبل، تناثرت بيوت الأهالى فوق منطقة «الشهبة»، والتى تم هدم أغلب منازلها، خاصة فوق الحواف، إلا القليل، وفوق صخرتها التف عدد من الأهالى حول مسؤولى الجولة، يسردون مشاكلهم، أملا فى التوصل إلى حل يكتمل به حلمهم، عند الانتقال للمكان الجديد، فيما أصر آخرون على رفضهم لفكرة النقل، خاصة بعد تعامل مسؤولى الحى لهم بالاستهانة والتجاهل عند الاستماع لشكواهم.
فوزى صالح، عجوز تجاوز العقد السادس من عمره، ومازالت ذاكرته تحتفظ بتفاصيل كل يوم عاشه فى أحداث ثورة يناير، التى شارك فيها، وكل مطالبه هى أن يحصل على تأميناته عن عمله، الذى تواصل فى شركة القاهرة للمنسوجات الحريرية على مدار 20 عاماً، وكذلك إصدار بطاقة تموين لأسرته المكونة من 5 أفراد، لكونه مجبرا على شراء «كل حاجة بالغلا والكوا». لم ينكر «فوزى» أنه يعيش «تحت الخطر»، لكن مقاومات الحياة التى ذكرها أعلاه كانت الأهم بالنسبة له، قبل البدء فى أى حديث عن السكن الجديد ومواصفاته.
وقال: «عندى 3 ولاد كلهم صنايعية أنتقل بيهم وآخد شقة من غير دكان نعمل بيها إيه؟ ونأكل بعدها عيش إزاى؟ لما يخصصوا لى دكان نفكر فى الشقة».
أما سيد عبدالعليم، الذى يعمل فى الأصل فى مهنة البناء، فوقف يبرر عن اقتناع سبب رفضه للانتقال للمساكن الجديدة، فمنزله الذى بناه بنفسه «مافيهوش شرخ» ومبنى كله من الحجر، ويقع فى مدخل شارع رئيسى فوق الجبل، فى منطقة غير قابلة للانهيار- حسبما يزعم- كما أنه صمم المنزل بطريقة تسمح باستيعاب أبنائه الثلاثة، حيث يقررون الزواج، وهو ما لن توفره له الدولة، فإذا ما تسلم شقة وتم هدم منزله، لن يجد وقتها مكانا لتزويج أبنائه.
لم يشاهد «سيد» شقق مشروع «الأسمرات»، والتى لا تقل مساحة الشقة فيها عن 63 مترا، «أنا كل اللى أعرفه إن الناس اللى راحت (أكتوبر) خدت شقق 38 مترا متكفيش عيلة طبعا، أما الشقق الجديدة دى ما أعرفش عنها حاجة».
وأضاف: «اللى شفته بعينى إن الناس اللى راحت (أكتوبر) رجعوا تانى الدويقة، بعد تسلمهم الشقق، لأنها صغيرة جداً، وكمان بيدفعوا ليها إيجار، بعد ما كانوا فى بيوتهم ملكهم». فيما اعترض إبراهيم محمد، أحد سكان المنطقة، على تملك الشقق نظير قيمة إيجارية، وقال: «نعيش كلنا فى منازل بملكية خاصة، وبمستندات رسمية، حين طلبت منا الدولة نفسها دفع 5 جنيهات عن كل متر، كإجراءات للتمليك مكنتنا بعدها من توصيل عدادات الكهرباء».
بعد أن خلت المساحة حولها من منازل جيرانها التى تم هدمها وقفت زوجة سيد تشير إلى أرضية الجبل الخالية- على حد وصفها- من الشروخ، وطالبت بتوصيل المرافق، وأهمها الصرف الصحى، لضمان الحفاظ على استقراره.
ورغم علمها بتكامل الخدمات فى المدينة الجديدة، التى سوف تنقلهم إلى حياة آمنة، إلا أنها لاتزال ترى أن المنزل الذى لا يتجاوز ارتفاع حوائطه عن متر ونصف هو أكثر احتواء لها، لأنه يضم بين جدران حجراته المتواضعة كل أحفادها، الذين تراهم كل ساعة أمام عينيها.
حجرة لا تتجاوز مساحتها مترين فى مترين، منفذ التهوية الوحيد فيها شباك ارتفاعه نصف متر، تحتوى على سرير ودولاب، تتحول إلى مرقد حمدى محمود، الذى اعتاد أن يلقى بظهره لساعات فوق السرير، يحاول أن يستنشق أى نسمة هواء تدخل له عبر النافذة الصغيرة.
مرضه بالقلب الذى ينتظر إجراء عملية للقلب المفتوح سلب من حمدى قواه، ليتحول إلى طريح للفراش، وتتسلم بدلا منه زوجته وأولاده الستة مهمة كسب القوت.
يلازم حجرة «حمدى» دورة مياه المنزل، التى تبعث على صدره الروائح الكريهة من تكرار تعرضها للانسداد، فيهرول عبر طرقة هى أشبه بالممر يصل طولها لثلاثة أمتار، يدفع بقدر استطاعته باب المنزل الخشبى ليجلس أمامه، فى محاولة للعثور على نسمة هواء، تعينه على التنفس.
مع تكرار أنفاسه التى اعتاد الفوز بها بصعوبة، يجلس حمدى حالما بلحظة تسليمه وحدته السكنية الجديدة، رغم كونها بعيدة عن مصدر رزقه ولن تسع كل هؤلاء الأطفال، إلا أنها جيدة التهوية، لكثرة النوافذ بها، والتى شاهدها بعينه فى زيارة خاطفة للموقع.
لم يبال أطفال المنطقة بالهدف من الجولة، فالمرح وسعادة القلوب هو الأهم والأكثر تماشيا مع براءتهم، حتى وإن كان لهوهم على حافة الجبل والموت، مشهد لم يمر مرور الكرام على مسؤولى الحى، وعلى رأسهم محمد نور الدين، رئيس الحى، الذى حاول استغلاله، والوقوف عنده، لبيان حجم الخطر الذى يتعرض له الأطفال كل يوم وساعة ولحظة، وهو ما لم يلق بصداه لدى الأهالى، الذين أكدوا أن مسؤولى الحى أنفسهم رفضوا استقبالهم وأطفالهم أكثر من مرة، حينما ترددوا لتقديم شكواهم، وأهمها- حسب شيماء هاشم، ربة منزل، وأحد سكان المنطقة- تسجيل الأطفال: «لو كان مسؤولو الحى حاسين بجد بالأطفال وبيوعدوهم بالشقق علشان الأمان كان من باب أولى إنهم يقبلوا بتسجيلهم، أنا بنتى عمرها 7 شهور، رفضوا تسجيلها على عنوان البيت اللى فى بطاقة بباها، لمجرد إنه فى منطقة مقرر إزالتها، واضطر يغير العنوان، علشان يعرف يطلع لها شهادة ميلاد وتاخد التطعيمات، ومش هى بس اللى كده أطفال كتير فى المنطقة، ومنهم اللى ما اتسجلوش أصلا».
وهنا قاطعتها إنصاف سيد مصطفى، المطلقة والعائلة لأربعة من الأبناء قائلة: «أنا بقى أخذت وعد باستلام شقة فوراً نظير تنازل باقى أخوتى العائلين لأسر، ووالدتى الأرملة والمقيمين جميعاً فى نفس المنزل عن حقهم فى وحدات مستقلة لكل أسرة منهم، ويبقى نصيب العيلة بأكملها شقة واحدة بدل 3، ولما رفضت طلبوا أنى أقدم مشكلتى وأعرضها كاستغاثة إنسانية للرئيس، ورغم إنى عارفة إنه هيستجيب ليها، ومشكلتى هتتحل، لأنه فى الآخر عاوز يريحنا، وعمره ما هيرضى إن مطلقة تعيش موزعة عيالها عند قرايبها علشان تقربهم من مدارسهم، لكن عمرى ما هحول حق ليا لطلب أو استغاثة، ومش هنسمح بهدم البيت لحد ما يعملوا لينا الحصر صح».
وهو ما علق عليه رئيس الحى قائلاً: «الحى قام بحصر جميع الحالات المستوفية لشروط استحقاق الشقق، والتى انطبق عليها شروط وأحكام الحصول على الوحدات، وأهمها أن تكون إقاماتهم فعلية بالعقارات المقرر هدمها، وتمت مراجعة كل الأوراق المقدمة من الأهالى وبدقة، لدرجة أننا قمنا باستقبال الأهالى داخل مقر الحى، فى جلسات خاصة لكل أسرة على حدة، لمعرفة سعة كل منزل، وما يضمه من عائلات، وتمت مراجعة ما قدموه من أوراق، وساعدناهم على إزالة أى تعثرات تقف أمامهم».
وأضاف أن منطقة «الشهبة»- التى نقف فوقها حاليا- تحتوى على 5 شوارع، تمثل خطورة من الدرجة الأولى، ومبانيها مقامة على مساحة 120 فدانا من إجمالى 170، والمحافظة تراعى البعد الإنسانى لأقصى درجة عند نقل الأهالى، فيتم الإخلاء دون استخدام القوة الجبرية، «باعتبار أنهم أهلنا»، وتم نقل أمتعتهم لشقق أكتوبر فى المرحلة السابقة نقلاً مؤقتاً فوق عربات المحافظة، ودون أى خسائر فى الأرواح.
وحاول اللواء أحمد تيمور، القائم بأعمال محافظ القاهرة، التركيز على النقلة الحضارية الشاملة، وليست السكنية فقط، التى سوف يعيشونها بمجرد انتقالهم للمساكن، وقال: «الدويقة هى جزء من مرحلة أكبر تهدف بها الدولة للقضاء نهائيا على العشوائيات، وبوعد رئاسى، وبتكلفة تصل لـ16 مليارا، فنحن ننظر للأجيال القادمة، والأموال التى تبرع بها المصريون لصندوق (تحيا مصر) هى أموال هدفها تخطى الصعاب، لتثبت للعالم عراقة هذا البلد وشعبه».
ولم ينكر «تيمور» عدم وعى المواطنين بما يحمله لهم المشروع من خدمات قائلاً: «يعد المشروع الأول حضاريا من ناحية الخدمات المقدمة فيه، سواء ملاعب أو وحدات صحية وتعليمية، ولذلك مازال يعتقد أغلبهم أنها مجرد وحدات سكنية، لن تناسب طبيعتهم المعيشية، ولهذا قمنا بتلك الجولة، لعرض الفرق بين الحياتين، ولأننا على يقين بفارق المستوى فى البنية وضعنا شروطا قاسية لمن يخالف شروط العقد فى الانتفاع بالوحدة، حتى لا يتم إهدارها أو المتاجرة بها».
ومن أرض المشروع ترى ضوء الشمس يسطع على واجهات العمارات، ليزين عبارة «تحيا مصر»، المدونة فوق كل عمارة، وأسفل إحدى تلك العمارات وقف شعبان محمد، نقاش، ليؤكد أن العمل فى المشروع كان يتواصل من الخامسة فجراً حتى الحادية عشرة مساءً، التزاما بموعد تسليمه خلال عام.
وقال: «جينا هنا كانت الأرض صخر على شوية تراب، وكنا بنتشغل حتى فى أصعب الظروف، لكن كنا عارفين إننا بنعمل للغلابة، والمشروع فعلا أكتر من رائع، وأى حد يرفض ينقل ليه غلطان وخسران، إحنا دهنا الشقق بالبلاستيك والحوائط مبطنة سيراميك، حتى غرف الكهرباء مهندسو الفنون الجميلة زينوها بالرسومات وبألوان جميلة، وعملنا بين العمارات استراحات، ليها مظلات، علشان عارفين إن اللى جايين أهل بلد وبيحبوا السهر والونس فى تجمعات، ويحتوى كل دور فى العمارات على 6 شقق، بها فتحات ونوافذ للتهوية تجعل منها سكنا صحيا فى المقام الأول». وهو ما أكده اللواء سامى عبدالسلام، مهندس المشروع، مضيفاً أن مبانى مشروع «أسمرات 2» يضم 3 حضانات للأطفال، كل واحدة على مساحة عمارة بأكملها 460 مترا، وبه 3 وحدات صحية على نفس المساحة، و6 وحدات مولات، فضلاً عن 144 محلا تجاريا، ومدرستين ابتدائى وإعدادى، ومسرح مكشوف، ومركز لتنمية خدمة المجتمع، ومركز تدريبى، ووحدة إطفاء بـ3 سيارات.
ومن جانبها اعتبرت منال شاهين، رئيس قطاع البرامج لصندوق «تحيا مصر»، أن برنامج تطوير العشوائيات أول مشروع متكامل الخدمات، والذى ستتولى إحدى الشركات إدارته، للحفاظ على كيانه وما به من خدمات، ومنع إساءة الاستخدام، لكونه تجمعا عمرانيا ضخما، يسع 11 ألف وحدة سكنية، يربط الأهالى بمختلف أنحاء الجمهورية، ولا يبعد عن منطقتهم الأصلية سوى 20 دقيقة.
وقالت: «لم نراع فقط البعد الهندسى فى المشروع، بل توصلنا مع إحدى مؤسسات المجتمع المدنى، لتوفير قروض للأهالى، تتراوح بين ألف و3 آلاف جنيه، وبفائدة ضئيلة للغاية، لا تزيد على 5%، تساهم فى البدء بأى مشروع، يعمل على تحسين الدخل».
وأنهى محمد عشماوى، المدير التنفيذى لصندوق «تحيا مصر» الجولة بتأكيده على أن الصندوق لن ينتهى دوره فى تطوير العشوائيات، قائلاً: «نسعى لحصوله على درجة عالمية فى المطابقة للمواصفات، باعتبارها مدينة متكاملة».