قبل أن يتخذ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قراره بخروج اليهود من مصر، كان «عم جلال»، أشهر حفارى النحاس فى حارة اليهود، يحبهم ويجالسهم، وكان يحب طباعهم ويصفهم بالأمناء والصادقين وأصحاب الكلمة الواحدة، وأعز أصدقائه فى تلك الفترة يهودى، ومن شدة صداقتهما ترك له صديقه ورشته قبيل خروجه من مصر مباشرة دون مقابل لأنه لم يكن مسموحاً لليهود فى ذلك الوقت يبيع أى من ممتلكاتهم.
ومنذ ذلك الوقت يعمل «عم جلال» فى الورشة، فى المهنة نفسها التى تعلمها من اليهود، ولشدة إخلاصه لصديقه لم يغير اليافطة التى تعلو مدخل الورشة حتى الآن رغم أنه لم يتبق مما هو مكتوب عليها شىء، وذلك تكريماً لصديقه: «اليهود كانوا صعبانين عليا وهمه طالعين مطرودين ولو أنا كنت مكان عبدالناصر لا يمكن كنت أطردهمى. ويحكى «عم جلال» عن الحارة فى فترة وجود اليهود: «كانت حاجة تانية خالص، كانت الأرض كلها بلاط أسود مربع من اللى بنشوفه دلوقتى فى الأفلام الأفرنجى، وكنت تحب تقعد على باب أى بيت فى الحارة من كتر النضافة، دلوقتى فيه مصانع تطلع ريحة تموت، والأرض كلها مكسرة وكل حتة فيها زبالة».
حب «عم جلال» لليهود الذين عاصرهم فى الحارة، يرجع إلى أنهم «كانوا أمناء وكلمتهم واحدة مش كدابين زينا. وكان عندهم رحمة، أنا فاكر إن كان فيه بقال يهودى بيدبح الفراخ بأمواس، عشان مايعذبهاش.. عمر حد مصرى عمل كده؟ دايما بيدبحوا بسكينة تلمة.. أى حد عاش مع اليهود هيقول قد اللى قلته ميت مرة».
أمام ورشته «نجمة المصريين» للنحاس، يترحم «عم جلال» على أيام زمان، فبالرغم من التطور الذى شهدته هذه الصناعة، بعد دخول الكمبيوتر والماكينات فى العمل، فإن «عم جلال» أكد أن المهنة لم تعد تدر دخلاً كافياً: «زمان كان كيلو النحاس بملاليم، ومن 9 سنين بس كان بـ11 جنيه، دلوقتى بقى بـ54 جنيه». ويشرح «عم جلال» تأثير هذا الارتفاع على سعر القالب الذى يفرغ فيه النحاس لعمل الشكل المطلوب: «القالب كان سعره 30 جنيه، دلوقتى بقى بـ200 جنيه وهذا الارتفاع فى أسعار الخامات أدى إلى ارتفاع أجرة الصنايعى من 10 أو 15 جنيه إلى 60 أو 70 جنيه يوميا، ده غير بتوع الضرائب والتأمينات اللى مش سايبنا فى حالنا».
عدم الإقبال على النحاس مشكلة أخرى تواجه عم جلال فى مهنته، ولذا قال إن سكان حارة اليهود اتجهوا إلى العمل فى مهن أخرى أكثر ربحا، ولكن «عم جلال» يرفض بشدة تغيير مهنته: «أشتغل فى إيه تانى؟ اللى ماشى هو الأكل والشرب يعنى المطاعم والكافيتريات، وده ماليش فيه، لكن اللى بيحب صنعته مايفرطش فيها، ده أنا علمت كل ولادى منها».