لا تجد إلا كلمات المواساة من الجميع هنا بمجرد أن يكتشفوا الهوية المصرية لأي من المشاركين بالمهرجان، الكل يشعر بالأسى والحزن وأيضاً الخوف مما هو قادم، وبين كل ذلك كانت هناك لمحات أخرى في المهرجان جديرة بالتوقف أهمها بزوغ قوى الاستهجان وسيطرته على الموقف الذي تكرر فور عرض العديد من الأفلام التي حققها كبار المخرجين تباعاً ويكاد الجمهور يهتف النداء الشهير ((سيما أونطة هاتوا فلوسنا))، مثلًا الإسباني المودوفار وفيلمه ((جوليتا)) والأخوان البلجيكيان داردين ((جين ولوك)) بفيلم ((الفتاة المجهولة)) والروماني كريستين مونجيو ((بكالوريا)) وهي بالمناسبة نفس الدرجة التي كانوا يطلقونها في مصر قبل 40 عاما على امتحان الثانوية العامة، والنجم الأمريكي شون بن ((الوجه الأخير)) وغيرهم كلهم خذلونا، برغم الترقب، بل أتصور أن الترقب لعب دوراً عكسياً في هذه الحالة وكأنه بنزين يلقى على النيران فيزيدها اشتعالًا، الجوائز بالطبع تعلن مساء اليوم وأتصور أن السعفة أقرب إلى المخرجة الألمانية مارن أدي بفيلم ((توني أردمان)) وجيم جراموش الأمريكي ((باترسون)) وأصغر فرهدي الإيراني «البائع»، ولو فعلها فرهدي سيصبح هو المخرج الوحيد الذي جمع بين أوسكار هوليوود لأفضل فيلم أجنبي والدب الذهبي في برلين وأخيرا سعفة ((كان)).
الأفلام المتواضعة تطرح السؤال وسط تردي حال الجنيه المصري وزيادة نفقات السفر والإقامة في ((كان)) هل الأمر يستحق كل هذه المعاناة، أم أن الحكاية تتجاوز المتعة السينمائية ليتحول الموقف وكأنه نوع من الإدمان المشروع بالطبع.
وفي المهرجان الخالي من الأفلام الرائعة كانت هناك أفلام تحريك ((رسوم متحركة)) رائعة، هذا العام مثلًا شاركت ثلاثة أفلام، أهمها ((السلحفاة الحمراء)) في قسم ((نظرة ما))، والحقيقة أن أفلام التحريك التي يُطلق عليها أحيانا تعبير ((الفن الثامن)) على أساس أن السينما هي ((الفن السابع))، هذا النوع من الأفلام يجد حفاوة من المهرجانات الكُبرى وعلى رأسها ((كان)) بل قبل 7 سنوات مثلًا، تم افتتاح المهرجان بفيلم ((أعلى)) لتصبح من المرات القليلة التي يُفتتح فيها مهرجان كبير بفيلم تحريك، بل وحصلت تلك الأفلام على جوائز عديدة من قبل مثل الفيلم الإيراني ((بريسيبوليس)) الذي كان يتناول الثورة الإيرانية بالنقد ومخرجته مورجان سترابي الإيرانية هربت هي وأسرتها للعيش في فرنسا وحصل على جائزة لجنة التحكيم، وفرنسا يقيم بها أكثر من مخرج إيراني مثلما فعل ذلك هو وعائلته المخرج الإيراني محسن مخلباف، مما اعتبروه وقتها نوعًا من تدخل المهرجان سياسيًا ضد إيران لترحيبه بمخرجي المعارضة، بالمناسبة لم تقاطع إيران طوال تلك السنوات ((كان)) ولديها دائمًا أكثر من جناح، فقط كانوا قبل سنوات يتحفظون على المهرجان على أساس انحيازه لأفلام مخرجي المعارضة، حيث كان يعرض العديد من أفلام المخرجين المختلفين مع النظام الحالي أمثال جعفر بناهي الذي عرض له قبل أربع سنوات ((هذا ليس فيلماً)) وهو ممنوع من السفر خارج حدود إيران، بل وممنوع من ممارسة المهنة لمدة 20 عامًا، وأيضًا محمد رسولوف ((وداعًا)) الذي طُبقت عليه نفس الأحكام، ورغم ذلك يعرضون أفلام بناهي تحديدا في ((كان)) و((برلين)) والتي يتم تهريبها بين الحين والآخر، وقبل عامين حصل على ((دب)) برلين الذهبي عن فيلمه ((تاكسى))، وهناك مخرجون يقفون في منطقة متوسطة من الدولة مثل عباس كيروستامي، وأصغر فرهدي، فهو مثل أستاذه كيروستامي، وقبل عامين عرض فليم فرنسي من إخراجه في ((كان)) ((الماضي))، وحصلت وقتها بطلة الفيلم فرنسيس بيجلو على جائزة أفضل ممثلة.
بالمهرجان أحداث صاخبة غطت على ضعف مستوى الأفلام ووجدنا أنفسنا كعرب نحتل المقدمة، مثلًا الممثل سامي نصري الجزائري الأصل الذي أخذوه من فوق السجادة الحمراء، حيث كان أحد أبطال الفيلم الروماني ((بكالوريا))، لأنه تجاوز قواعد القيادة، وقد تشاجر مع رجال الشرطة على السجادة ولكنهم لم يتراجعوا عن اقتياده وسحب رخصة القيادة منه.
ومن المشاحنات إلى القُبُلات التي يبدو أنها ستصبح النصيب المستحق للمخرج الإسباني المودوفار الذي يشارك كثيرا في المهرجان ولا ينال شيئًا من المهرجان سوى القُبُلات، ولا تنسَ قبلة جورج كلوني لأمل علم الدين في افتتاح «كان»، وهو سبق وأن تكرر قبل ثلاثة شهور في مهرجان برلين، وللقبلات تاريخ حافل في «كان»، حيث سبق أن منح رئيس المهرجان السابق، جيل جاكوب، عضو لجنة التحكيم، الفنانة الإيرانية ليلى حاتمي، قُبلة على الخد كنوع من التكريم، ووقتها احتجت وزارة الثقافة الإيرانية على القُبلة ولم تفلح الأعوام الثمانون لجاكوب التي يحملها على كاهله في تخفيف الغضب، كما أن عباس كريستامي أيضاً نال واحدة بعد حصوله على السعفة عام 97 عن فيلمه ((طعم الكرز)) من الأيقونة الحسناء الفرنسية إيزابيل أدجاني، رئيسة لجنة التحكيم، وكانت في الثلاثين من عمرها، وفي طهران بدلا من أن يحتفلوا بالسعفة فتحوا عليه وابلًا من النيران رغم أنه كان بريئا فهو قد تلقاها من إيزابيل ولم يسع إليها.
كثير من القبلات تحولت إلى حدث رئيسي ومانشيت، نتذكر مثلا عندما انقلبت الدنيا في مصر على «د. محمد البرادعي»، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بسبب هذه القُبلة البريئة التي منحها لأنجلينا جولي قبل أربع سنوات.. كان «البرادعي» باعتباره رئيساً للجنة التحكيم الخاصة بالأفلام التي تحمل رؤية إنسانية قد قرر على هامش مهرجان «برلين» السينمائي أن الجائزة من نصيب الفيلم الذي أخرجته «أنجلينا» في أول تجربة لها في الإخراج «أرض الدماء والعسل» وألقى كلمة مشيداً بثورات الربيع العربي، مؤكداً سقوط حاجز الخوف إلى الأبد، ورغم ذلك لم تهدأ الانتقادات التي وُجهت للبرادعي واعتبروه قد باع قضية الثورة.
القبلة الآن في السينما المصرية تثير مشكلات بعد شعار السينما النظيفة الذي سيطر على الساحة السينمائية، رغم أنك لو راجعت مثلاً دعاية فيلم «أبي فوق الشجرة» لوجدت أن الأفيش عام 1969 كان يتباهى بعدد القُبُلات بين «عبدالحليم» وكل من «نادية لطفي» و«ميرفت أمين» التي تعدت المائة قُبلة.
تلك القُبلة التي غنّت لها «أم كلثوم» في فيلم «سلامة» قبل نحو 70 عاماً بكلمات «بيرم التونسي» تلحين الشيخ زكريا أحمد «القُبلة إن كانت من ملهوف /اللي على خد الورد يطوف /ياخدها بدال الواحدة ألوف /ولا يسمع للناس ملام».. لكن الناس الآن لا تكتفي بالملام إذا شاهدت قُبلة ولكن بالملاحقة القضائية والمطالبة بالسجن والبهدلة على «النت» لكل من تسوّل له نفسه ويُقدم على قُبلة حتى في ((كان))!!