الجسدُ الإنسانى، «قُبّة الروح» كما وصفه ابنُ عربى. هو الكيانُ المنذور للبهجة أو للألم، للترهّل أو للنحول والذبول، ثم للموت. هو الثمرةُ التى تسقطُ من جوف امرأة، لتمرحَ برهةً، ثم تعطبُ وتُلقى فى جوف أرض. من جوفِ خِصْبٍ إلى جوفِ خصب. وهو الخارطةُ التى تحملُ هوياتنا وألواننا وأعراقنا ومواهبنا وبصمات أمراضنا. هو الفداءُ المقدّس الذى نذره المسيحُ ليفتدى البشريةَ. وهو الهيكلُ الذى يرهن الإنسانُ عمرَه ليُشبعَ حواسّه فيغفو العقلُ، أو ليحرمَه ويجوِّع غرائزَه النهمةَ فيُشرق العقلُ وتسمو الروح. هو الشاخصُ الذى استخدمه الحكّامُ الفاشيون للسيطرة على عقول الشعوب، بتكبيله، وسوطه، وحرقه. وهو الأيقونةُ التى ترفعنا إلى فردوس الرغَد، أو تودى بنا إلى دَرَك التهلكة. الجسد، هو المنهلُ الثرىُّ الذى ألهمَ الأدباءَ إبداعَهم، هو ذاته الأرضُ الخصبة التى يضرب فيها الفنانون ريشتهم ليشكّلوا نفائسَ، يمتد عمرُها ليبقى بعد زوال الجسد الملهِم، وبعد جفاف الريشة المبدعة.
معرضٌ جماعىٌ يمتد حتى 18 نوفمبر، أقامه قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية حمل عنوان «الجسد الإنسانى»، شارك فيه 110 فنانين من مختلف الأجيال. منهم أحمد نوار، محمد عبلة، وجيه وهبه، حلمى التونى، روزانا كورادو، شاكر الإدريسى، طارق الشيخ، إيمان أسامة، سمير فؤاد، جميل شفيق، وغيرهم. وهو المعرض الذى تأجل سنواتٍ طوالا لأسباب مختلفة، كما قال الفنان محمد طلعت، مدير القصر التابع لقطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة. جاور المعرضُ بين فن التصوير بالريشة واللون، وتقنية الفوتوغرافيا، والكولاج، وكذلك النحت والحفر على الخشب. ونهلت لوحاته من مدارس عدة، منها التعبيرى والتجريدى والسوريالى وسواها من مدارس الفن الحديث. وكان للمرأة نصيبُ الأسد فى المعرض، وكيف لا، وقد حقق جسدُها النموذج الفذ لجمال التكوين. لاسيما حين تتماوج انثناءات جسدها مع انحناءات جسد السمكة كما فى لوحات حلمى التونى. رضا عبدالرحمن، ظهرت المرأة فى لوحاته فى منتصف عمرها، بوجهها الجانبى، كأنما تنظر نحو المستقبل، أو بالأحرى نحو الماضى، استلهامًا من فراعين مصر، الذين أبدعوا فى تصوير البروفايل الجانبى. على ثوبها رسم الفنانُ عشرات البشر بخطوط الأبيض المفرّغة، كأنما المرأةُ الناضجة تحمل فى أحشائها سلالة الجنس البشرى بألوانه وأعراقه. صبرى منصور جمع بانوراما تشكيلية فى لوحة واحدة، تصور المرأة فى لعبها مع الماء، تسبح، تستلقى، تسترخى، تغسل شعرها، تطفو فوق صفحة الماء ومن حولها الأعشاب والشعب المرجانية التى تخاتل بين جسد الماء وجسد المرأة.
وقدم صلاح حماد تمثالين للمرأة، واقفةً مرة، ومضطجعة على جانبها مرة. بينما قدمت ريشةُ صلاح عنانى «العسراءُ» تقنيته المعروفة ليبرز، عبر فوضى الألوان، وجوهًا مصرية تقف عند هامش الحياة. موظف يجلس تحت لوحة تمثل نسر الختم الحكومى الشهير، ينظر من وراء نظارته السميكة إلى لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة العتيقة، ومن فوقه دوسيهات الأرشيف الحكومى تكاد تسقط فوق رأسه. وصبى فوق رأسه قفص الخبز يسنده بيد، وتقبض اليد الأخرى على مقود دراجته.
البسطاء فى احتفالهم الشعبى بالمولد ظهروا فى لوحة بانورامية مستطيلة بريشة طه القرنى. من طبالين، ودراويش وحواة وباعة جائلين ومتسولين ومشعوذين وفاتحى مندل وأطفال وشيوخ وعجائز ومتضرعين للأولياء، على خلفية من زينات المولد من أعلام ملونة ومصابيح مضيئة ولافتات.
أما عاطف أحمد فاختار أن يقدم لوحتين متجاورتين تحملان رسالة التعدد السوسيولوجى فى زى المرأة المصرية. هند رستم فى فستان أنثوى فاتن، جوار امرأة منتقبة فى سدال أسود معتم لا يبين شيئاً من جسدها. هنا إقصاءٌ للجسد. ولم تطغَ إحدى اللوحتين على الأخرى، كأنما الفنان يكتفى بالسؤال دون طرح إجابة. أىٌ المرأتين تمثّل مصر؟ الفنانة عقيلة رياض قدمت فتيات بشعورهن الفاحمة السواد فى الزى المصرى الفرعونى، يتهامسن وهن يتحلّقن حول حزمة من زهور اللوتس المصرية. واختار فريد فاضل أن يقدّم العذابَ المنذور للجسد البشرى، عبر إنسان مقيّد المعصمين وراء ظهره، تتقاذفه السهام من هنا ومن هناك. فيما قدم محمد العلاوى تصويرا لإنسان يرتكز بكعبيه على قمة جبل، وتتشبث يداه بقدمى طائر جامح نحو العلا. هنا حلمُ الإنسان الأبدى بالطيران. محاولة الفكاك من أسر الأرض بجاذبيتها، نحو السماء. أما مها جورج فطرحت فكرة تعدد الزوجات على نحو بليغ، عبر عريس فى بابيون العُرس، يقف عند رأس عروسات ثلاث فى ثياب الزفاف، فيما الزوجةُ الأولى تقف من بعيد فى بيجاما رجالية، يملأ الحزن عينيها، وإن حملت باقات الزهور فى يديها، بينما ملاك الرحمة، يتأهب ليفرّ هاربًا من شرفة البيت. فيما قدمت هالة عامر الحال الضد، فى حسناء جميلة تجلس على مقعد، جوار مقعد شاغر. ووضعت أسماء النواوى يد موديلها على بطنها، تحيط بالحُلم: الجنين النائم ينتظر التحقق. وظهرت الفتاة المصريةُ العشرينية بالأبيض والأسود فى تكوينات تقطر عذوبةً بريشة هند الفلافلى. أما سُمرة المرأة الأفريقية الآسرة بشعرها الجعد البرىّ فخرجت من ريشة وليد عبيد، ومن ورائها البوق النحاسىّ والطبول والدفوف والنخيل يطلّ من النافذة الخلفية.