شرب بعدها كوب الماء، قاوم، شكَّ فى أن الكمية لا تكفى للوصول، وبعد أن اطمأنَّ تمدد على السرير، أخرج علبة التبغ من تحت الوسادة وهو يشعر ببوادر سريان المخدر فى أطرافه, أشعل آخر لفافة، وفى دخانها– ومن خلف جدار الذاكرة– تجسدت ذكرياته، كانت كلها بائسة، «هل كانت بالفعل بائسة أم أن الذكريات الجميلة لا تعلق بشباك الذاكرة»، على الجدار المقابل تعلَّقت عيناه على إحدى الذكريات, كانت مجموعة من الصور المطموسة لرموز الوطن والفكر الذين أحبَّ رسمَهم منذ سنين، فقد كان فناناً، تساءل هل ترك فنُّه ذكرياتٍ بائسة أم جميلة.
كانت تلك الصور مثل نُدبٍ لجرحٍ أبى أن يندملَ بمرور الزمن، فما إن تمرَّ عليه عيناه حتى يتأجَّج لهيبُه من جديد، ليجسد تفاصيل ذلك اليوم، يوم عاد إلى قريته فى أول زيارة بعد دخوله الجامعة، كان أول شىء فعله بعد احتضان والديه هو التوجه إلى غرفته للارتماء بين أحضان صوره التى رسمها بالفحم وتركها بمفردها على الجدران، كبر فكبرت معه، عاد ليجد شقيقه الأكبر «ورث» غرفته ومسح صوره، لم يجتزَّها من جذورها وإنما ترك آثارها كى تجدد الألم، لحظتها أحسَّ أن عضواً من أعضائه قد بُتر بسيفٍ بارد، سأل شقيقه عن السبب فرد ببرود:
(1)
«صور الكفار»
- عبدالله النديم وأحمد عرابى من الكفار؟
- الرسم حرام، وتخايلنى أثناء الصلاة.
رغم أن رده كان فى برودة السيف إلا أنه كان بمثابة صهد لهيب مؤلم، اندفعت يده – وللمرة الأولى – إلى وجه شقيقه الأكبر مثل بركان، لكن غضبَه ونحولة جسده لم يحمياه من ضربات الأخ- الماكرة والسريعة، كى تكسرَ له ضلعاً وتطرحه أرضاً، وفمه يتفصد دماً، تماماً كالذى يجرى فى عروق خصمه، وآهات مخنوقة.. لم تكن آهات ألم الكسر وإنما آهات أم ثكلى نُحر أطفالها أمام عينيها.. بسيفٍ بارد.
(2)
لم تصب البرودةُ حدَّ السيف وحده، وإنما جمَّدت عاطفة الأخوة بينه وبين ابن أبيه وأمه, ولم تفلح الأيامُ ومحاولاتُ الأقارب فى رأب ما تصدع فى قلبه– الفنان– الذى لا يحتمل نظرات «العم القاتل» فألقى بنفسه فى رحى غربة المدينة كى تطحن عظمه وتفرم لحمه, ترفعه كموجة إلى أقصى قمة ثم تلقيه فجأةً فى ظلمات وحلها, ورغم هذا لم يستطع هواؤها تعكيرَ صفاء صدقه, ولم تخدش حدَّة أظافرها- الأنيقة– شغافَ بكارته، كم تمنَّى أن يكون محض «إبرة» تثقب ثغرةً فى عتمة جدار الظلم لتسرِّب– ولو– القليل من هواء وضوء الغد لمَن ينجو من العاصفة، هكذا كان قلبه حين التقى بها فى أحد الأعياد القليلة التى قضاها مع أسرته، رآها تروى أصيص اللبلاب فى الشرفة المقابله وبسرعة أحبها وأحبته, ومن جديد كثرت زياراته للقرية. ضبط نفسه مبتسماً فها هى الذاكرة تمده بأجمل ذكرى- فأحضان حبيبته صارت سياجاً مانعاً يحميه من نصال عيون أخيه، وفى آخر مرة أخبرته –وشفتاها بين شفتيه- بأنها تحمل له طفلاً فى أحشائها فتعاهدا على الزواج، وعندما عاد إلى القاهرة وجدهم بانتظاره عند الفجر، أخذوه وبعد شهر تركوه، ولما حسب ما تبقى منه كان الناتج صفراً، اغتصبوا شرفه – الريفى- ونقشوا على جسده بقسوتهم أخاديد متقاطعة على ظهره النحيل، وهنا لم يجد للميت القاطن بداخله إلا الارتماء فى أحضان حبيبته أو الارتماء فى تراب الوطن، ولما عاد لقريته وجد شقيقه الأكبر على وشك الزواج من حبيبته فاختار تراب الوطن.
كان قد انتهى من لفافته ولما تلاشى دخانُها وجد من ينتظره قابعاً خلف الستارة، لحظتها اندهش: لماذا يشعر بطمأنينةٍ لم يحسَّها من قبل وهو مقبل على مرحلةٍ يهابها كل البشر حتى الأنبياء, كسر حاجز الصمت بود:
- أعتذر إن كنت استعجلت لقاءك.
- لا إنه الموعد المحدد تماماً
رغم أن صوته لم يحمل أى عاطفة إلا أن نبرته لم تكن غريبة:
- صوتك ليس غريباً ..لماذا لا تتقدم قليلاً حتى أراك؟؟
من خلف الستارة تقدم ولما استبان وجهه صاح:
- لكنك لست أنا تماماً نفس الملامح ولكن ببهاء مهيب
قال لأول مرة
- الإنسان لا يقابل فى النهاية إلا نفسه.
فجأةً سمع دقات على بابه وصوت حبيبته يناديه.
- هل هذا حقيقى أم أنه هذيان الموت؟
- بل حقيقى هذا آخر صوت تسمعه لقد آن أوان الرحيل.
تجدد صوت حبيبته يخبره بأنها استطاعت أن تكون له، هنا وجد الأمل يدبُ فى جسده من جديد, حاول أن يباغت رفيقه قافزاً نحو الباب لكن ثمة قوة تجذبه من قدميه.. استطاعت يده أن تفتح مقبض الباب قبل أن يسقط على الأرض وكان آخر ما رآه قدمى حبيبته
عمرو جودة
محافظة الفيوم- مواليد 1978
كاتب وصحفى مصرى، مواليد 1978 نشر قصصاً فى عدة صحف ومجلات: مجلة أدب ونقد، الناقد اللندنية، الأهالى، الجمهورية.
له تحت الطبع مجموعة قصصية بعنوان «طقوس السراب والحقيقة» و«غاوى مقالب» كتاب ساخر..