عرض أمس الأول فى افتتاح مسابقة «نظرة خاصة» فى مهرجان كان الفيلم المصرى «اشتباك» إخراج محمد دياب، وهو ثانى فيلم روائى طويل لمخرجه الذى ولد عام 1977، وأخرج فيلمه الأول «876» عام 2012. وقد جاء الفيلم إعلاناً عن مولد مخرج مصرى كبير.
دياب الذى كتب السيناريو مع شقيقه خالد من جيل ثورة يناير بامتياز. فهو لم يعاصر حرب عبدالناصر ولا سلام السادات، ولا حتى بدايات عصر مبارك، وإنما عاش فساد ذلك العصر. ولذلك لم يكن غريباً أن يشترك فى الثورة ضده، وأن تكون الثورة موضوع فيلمه الثانى بعد خمس سنوات من نجاحها فى إجبار مبارك على التخلى عن الرئاسة، وإسناد مسؤولية إدارة شؤون البلاد إلى الجيش.
كانت الثورة من أجل الديمقراطية بعد 60 سنة من إسقاط الجيش للنظام الملكى الليبرالى وإعلان الجمهورية، واستبدال تداول السلطة بين الأحزاب بحكم الحزب الواحد. وموقف فيلم «اشتباك» واضح مع الديمقراطية، وضد العنف سواء من التيار الذى يمارسه من الإسلام السياسى، أو من الدولة التى تواجه العنف بالعنف.
يكتب على الشاشة فى بداية الفيلم أن ثورة 2011 أنهت 30 سنة من حكم مبارك، وأن انتخابات 2012 جاءت بحكم الإخوان المسلمين، وأن الشعب المصرى قام بأكبر مظاهرات فى تاريخه عام 2013 لإسقاط ذلك الحكم، وانحاز الجيش إلى الشعب ونفذ مطلبه. وأن أحداث الفيلم تدور فى يوم من الأيام التى أعقبت إسقاط حكم الإخوان بين المظاهرات المؤيدة للإخوان والمعارضة لهم.
رؤية وطنية وإنسانية صادقة
ويعبر الفيلم عن هذا الانقسام المستمر حتى الآن. فالفيلم ليس «تاريخياً» لمجرد أن أحداثه تدور عام 2013، وإنما يتناول الواقع السياسى المعاصر لزمن إنتاجه وعرضه. ولا ينحاز الفيلم إلى أى من الطرفين، وإنما يحذر من استمرار ذلك الانقسام على الجميع وعلى مستقبل مصر. ويؤكد أن الديمقراطية التى طالبت بها الثورة لم تتحقق بعد.
ويتم التعبير عن هذا الموقف السياسى من خلال إحدى سيارات الشرطة ذات النوافذ الحديدية مثل الزنازين التى يتم فيها ترحيل المساجين. وتجمع الشرطة فى هذه السيارة من تقبض عليهم أثناء المظاهرات من الإخوان ومن يمارسون العنف، وحتى من شاء حظهم العاثر التواجد فى الشارع بين المتظاهرين.
داخل السيارة- الزنزانة كل الأجيال وكل الطبقات وكل الأديان وكل الاتجاهات السياسية، وكذلك سكان الشوارع ومن ليس لهم أى انتماء. والضحايا يسقطون داخل وخارج السيارة من الطرفين، وممن ليسوا طرفاً فى الصراع أيضاً.
ونحن لا نخرج من السيارة طوال الفيلم (97 دقيقة)، ونشاهد ما يحدث خارجها من خلال القضبان الحديدية. وينتقل ركابها من المطالبة بفتح باب السيارة إلى تفضيلهم البقاء داخلها خشية العنف المتصاعد فى الشوارع. وينتهى الفيلم بانقلاب السيارة فى الليل رأساً على عقب، والكل يحاول إنقاذ حياته.
والرمزية هنا بالمعنى المذهبى الصحيح للرمزية فى الدراما، وهى أن يوحى الواقع بما يتجاوز حدوده المادية. فالسيارة سجن واقعى، والشخصيات واقعية، ولكنها تعبر عن مصر المسجونة التى تتوق للحرية، وأن الجميع سوف يدفعون ثمن استمرار الصراع بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية. ومن حق كل فنان أن يعبر عن رؤيته سواء اختلف معها البعض أم اتفقوا، ويكفى أنها رؤية وطنية وإنسانية صادقة.
والشكل الدرامى الذى يدور فى يوم واحد ومكان واحد محدود، ليس جديداً، وفى السينما المصرية هناك «بين السماء والأرض» إخراج صلاح أبوسيف عام 1959 الذى تدور أغلب أحداثه داخل مصعد معطل، ونماذج أخرى فى السينما العالمية. ولكن الجديد دائماً فى المعالجة الدرامية، ومدى التلاحم العضوى بين الشكل والموضوع والمضمون.
وشكل الدراما المحدودة من حيث الزمان والمكان بمثابة «امتحان» لقدرات المخرج الفنية. وقد نجح محمد دياب فى هذا الامتحان تماماً، وعلى كافة الأصعدة بالتعاون مع مجموعة فنية ممتازة أمام وخلف الكاميرا، وهم مدير التصوير أحمد جبر والمونتير أحمد حافظ ومهندس الصوت أحمد عدنان، وبفضل المنتج محمد حفظى الذى عرف كيف يفتح آفاقاً جديدة بحق.
كما يتميز الفيلم بالاستخدام الحذر للموسيقى التى ألفها خالد داغر، والتى تفيض بالحزن والأسى على معاناة المقبوض عليهم، فى تفاعل محسوب بدقة. ويتميز أمام الكاميرا باختيار الممثلين والممثلات فى أدوارهم المناسبة لتكوينهم الجسدى والصوتى، وإدارتهم على نحو يجمع بين البساطة والعمق مبتعداً عن الميلودراما الصاخبة، رغم إغواء المواقف بها.
عازفون بقيادة مايسترو ماهر
أنظر إلى الممرضة نجوى التى قامت بدورها نيللى كريم، وهى الشخصية الأكثر قوة فى الدفاع عن الحق طوال الفيلم، وتعبر عن دور المرأة المصرية فى الثورة. وزوجها الموظف البسيط حسام (طارق عبدالعزيز) الذى يعجب بشجاعة زوجته بنفس القدر الذى يخشى عليها وعلى ابنهما الصبى. والصحفى آدم الأمريكى المصرى (هانى عادل)، وكم كان رائعاً وهو يتحدث عن والده الذى تعرض للتعذيب فى عهد عبدالناصر وهاجر إلى أمريكا، ولكنه طلب أن يدفن فى مصر. والمصور الفوتوغرافى زين (محمد السباعى) الذى يختلف مع آدم ولكن كليهما يدافع عن حرية الصحافة.
ثم هناك المجند الصعيدى عوض (أحمد عبدالحميد) الذى يتمرد على قائده دفاعاً عن الحقوق الطبيعية للمساجين فى شرب وإخراج المياه، ويلقى مصرعه على يد الإخوان. والمجند الآخر عويس (محمد السويسى) المسيحى الذى يجد نفسه داخل السيارة وقد أغلق الباب عليه أيضاً. وتبدو براعة محمد دياب عندما يكتفى بلقطة كبيرة لذراعه وعليها وشم الصليب للدلالة على ديانته. والفتاة الصغيرة عائشة (مى الغيطى) المتعاطفة مع الإخوان التى تفقد والدها الشيخ عندما يخرج أثناء تبادل إطلاق الرصاص. وصلاح (جميل برسوم) الذى يملك محلاً للموبايل، ويبحث عن ابنه الطالب طارق، ومساعده المريض رضوان (محمد عبدالعظيم) الذى يخبره بعد تردد أن طارق انضم إلى الإخوان.
وبقدر الرعب الذى تثيره فاشية الشخصيات الإخوانية، خاصة قائدهم الذى يفصل بين المنظمين والمتعاطفين، وبين الإخوان وغيرهم وكأنهم فوق البشر، بقدر الحب الجياش لشخصية خيشة (خالد كمال) ساكن الشوارع الذى يمثل دور البلطجى حتى يعيش، والذى ينفطر قلبه حزناً على مصرع كلبه (جربان) فى دوامة العنف. وبصفة عامة يبدو فريق التمثيل عازفين فى أوركسترا يقوده مايسترو ماهر. لقد شهد مهرجان كان بعرض «اشتباك» حدثاً من أحداث عام 2016 فى السينما.