يعد متحف السفينة فاسا فى السويد من أهم المقاصد السياحية فى أوروبا، حيث يرتاده قرابة المليون زائر سنويا. والسفينة فاسا هى بارجة حربية أمر ببنائها الملك جوستاف أدولف الثانى ملك السويد فى العام ١٦٢٦ م حين كانت أوروبا ترزح فى أتون حرب طائفية مريرة أتت على الأخضر واليابس فيها. وكان الملك جوستاف يطمح فى السيطرة على بحر البلطيق بالكامل من خلال إنشاء قوات بحرية كاسحة تضيف إلى تكتيكاته البرية غير المسبوقة والتى وضعته فى مصاف أعظم القادة العسكريين عبر التاريخ. إلا أن القائد العسكرى الفذ أخطأ خطأ فادحا عندما أصر على تصميم السفينة فاسا بنفسه دون الاسترشاد برأى الخبراء الهندسيين. أراد الملك جوستاف تشييد بارجة ذات جلال يرهب الناظرين، وقوة نيران مزلزلة لا تبقى ولا تذر وكأنها قلعة أسطورية تطفو على سطح الماء. فأصدر أمرا ملكيا ببناء سفينة مكونة من خمسة أدوار، بطول ٧٠ مترا، يرقد فى بطنها ٧٠ مدفعا برونزيا موزعين على طابقين، تبرز فوهاتهم من نوافذ ضيقة على جانبى السفينة. وأوصى بأن ترصع السفينة ترصيعا بديعا وأن يعتلى مقدمتها أسد عملاق بوزن نصف طن وارتفاع أربعة أمتار. استغرق تشييد السفينة عامين كاملين، نُشِر لها أكثر من ١٠٠٠ شجرة بلوط وانْتُقِى للعمل عليها مئاتٌ من العمال المهرة. كان الملك جوستاف وقتها يحارب فى بولندا ويستعجل فى أمر السفينة استعجالا ملحا. وبحلول العام ١٦٢٨م زَفَّت قيادات الجيش البُشرى للملك أن أصبح بحوزته أقوى حاملة مدافع بحرية فى العالم. إلا أن بعض الهندسيين المخلصين بَثُّوا على وجل توجسهم إلى القادة العسكريين بأن تصميم الملك قد انطوى على عيوب اتزان خطيرة قد تؤدى إلى غرق السفينة. فالملك غير المتخصص اهتم فقط بالشكل الخارجى والكفاءة القتالية للبارجة دون مراعاة لحسابات مركز الثقل، خاصة مع العدد الهائل من المدافع الثقيلة التى تقبع فى جوفها. أخفى قادة الجيش الأمر عن الملك المتعجل ظنا منهم بأن شكوك المدنيين دائما ما يخالجها التحسب الزائد والبطء وقلة العزم. وجاء يوم العاشر من أغسطس عام ١٦٢٨م وفى مشهد مهيب جُمع له الناس، أطلقت المدافع قذائفها الصاخبة على جانبى الميناء ابتهاجا وافتخارا بهذا الإنجاز العظيم الذى قصد به تجسيد عظمة ومهابة الشعب السويدى الصاعد. ثم أبحرت السفن الملكية من ميناء استوكوهولم لتحيط بالسفينة فاسا والتى سميت بهذا الاسم تيمنا باسم السلالة المالكة فى السويد. وما إن أخذت السفينة فاسا تشق طريقها فى البحر حتى هبت ريح هوجاء ترنحت معها السفينة وكأنها أرجوحة، وبدا عدم الاتزان وقصور التصميم واضحين للعيان. وعلى مرأى من الحشود المتراصة أخذت السفينة الأسطورية تتقلب على جانبيها ثم تطفو وتغوص حتى غرقت تماما تحت سطح البحر مبتلعة معها عشرات البحارة، فى مشهد مأساوى مهين لهدر مروع فى المال والعتاد والكرامة الوطنية. وعندما وصلت أنباء الكارثة للملك جوستاف، ريع واشتاط غضبا وأمر بمحاكمة فورية تحدد أسباب الفشل وتنكل بالمهملين. إلا أن المحكمة قضت فى نهاية المطاف بأن الأمر لا يعدو أن يكون «إرادة الله»، حيث إنه لم يكن أحد ليدان سوى الملك نفسه الذى كان قابضا على نواصى الأمر بتدخلها المباشر، فى كل مراحل التصميم والتنفيذ.
تم انتشال معظم المدافع البرونزية فى حينها، فيما تُركت السفينة لمدة أربعة قرون تقريبا قابعة فى قاع البحر حتى تم رفعها إلى السطح فى العام ١٩٦١م ثم أعيد تشييدها لتعرض فى متحف السفينة فاسا فى استوكهولوم بالسويد. إلا أنه مع بدايات عام ألفين بدأت تظهر بوادر التآكل على أخشاب السفينة إلى درجة حيرت الأثريين وهددت بإغلاق المتحف. لجأت إدارة المتحف بدعم كامل من الحكومة إلى الجامعات ومؤسسات البحث العلمى بحثا عن حلول لإنقاذ السفينة. واستجاب العلماء السويديون فورا من خلال تدشين مشروع علمى قومى أطلق عليه «إنقاذ السفينة فاسا» والذى أتى بثماره فى أقل من خمس سنوات. فقد أظهرت أبحاث الامتصاص الطيفى للأشعة السينية فائقة الشدة XAS والتى أجريت على عينات من خشب السفينة أن سبب التآكل هو الحمضية الشديدة للأخشاب الناتجة عن وجود كميات هائلة من حامض الكبريتيك. وبالدراسة والتنقيب تبين للباحثين أن قاع البحر وقت غرق السفينة كان مشبعا بعنصر الكبريت الذى تسلل إلى الألياف الخشبية، وعندما انتشلت السفينة، وخرجت إلى الهواء الملىء بالأكسجين، حُفِّزت عمليات أكسدة على أطراف مسامير الحديد الصدئة، تحول معها عنصر الكبريت إلى حامض كبريتيك لاذع يلتهم قطع الخشب وينخر فيها. وبناءا على نتائج الدراسات العلمية الرصينة استحدث علماء الكيمياء مواد عضوية شمعية مضادة للأكسدة تُرَشُّ بها السفينة دوريا لتنفذ بين ألياف الخشب وتثبط تآكلها. كما أدت الدراسات أيضا إلى ضبط درجة حرارة غرفة الحفظ ورطوبتها على نحو يسهل عمل تلكالمثبطات. وبفضل جهود العلماء والباحثين تم السيطرة على تآكل السفينة بدرجة كبيرة، وهى الآن فى حالة ممتازة دون وجود أى خطر داهم يتهددها. ولا يزال العلماء ويواصلون تحليل محتويات الحديد والكبريت فى الألياف الخشبية مع دراسات متعمقة تهدف إلى استبدال مسامير الحديد بمواد أخرى أقل تفاعلية. كما يعكف فريق آخر من العلماء على دراسات محاكاة حاسوبية دقيقة تُنبئ بأحوال السفينة بعد عشرات السنين وكيفية تفادى أى أخطار مستقبلية. كما يواظب فريق ثالث من المهندسيين على تصميم دعامات إنشائية لتثبيت بعض المواضع المهترئة دون التأثير على الاتزان العام للسفينة.
ويجرنا هذا الأمر للحديث عن شؤون السياحة والآثار فى مصر وطرق إدراتها. وهو حديث ذو شجون يدمى الفؤاد ويحشرج الكلمات فى الحلق. ألا يروعنا ما آلت إليه أحوال المناطق الأثرية المصرية العظيمة التى تأن من أهوال الصرف الصحى ومقالب القمامة وتغول العشوائيات واستهتار الباعة الجائلين وجهالة وابتزاز الخيالة؟
أما آن للدولة أن تتبنى بجد وصرامة مشروعا قوميا لإنقاذ الآثار المصرية وتطوير أساليب إدارة مرافقها فى الوقت الذى تتعطش فيه البلاد للعملة الصعبة والتى من أول وأهم مواردها قطاع السياحة؟
أما آن لنا أن نفىء إلى أمور الحداثة والتطور والتخطيط الأمين؟
أما آن لنا أن نضع نصب أعيننا السفينة الحربية فاسا التى أغرقها نزق المحاربين ونفاق الحاشية، وأنقذها حسن الإدارة وجهود الباحثين؟!