لم يُخلق على هذه الأرض شر مستطير أكبر وأكثر من الاستبداد، فما إن يطل برأسه حتى ينهش جسد المجتمع وروحه بلا هوادة، ليهز البنيان، ويقوض الأركان، ويترك وراءه خراباً فادحاً، وعوزاً قاهراً، وقهراً متغلباً، وهمماً فاترة ونفوساً حائرة، وحزناً دفيناً.
والاستبداد هو أحد أشكال الحكم المطلق، الذى يركز القوة أو السلطة فى يد شخص واحد أو أيدى حزب واحد أو جماعة واحدة أو مؤسسة واحدة. وتعرفه معاجم اللغة على أنه «الانفراد» و«الغلبة» و«الاغتصاب» و«الاحتكار» بما يخل بمبدأ المساواة الذى لا تستقيم الحياة من دونه، فإن أحيل الأمر إلى مجال السياسة كان هو الانفراد بإدارة شؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة من دون بقية المواطنين. أو تجريد الأمر من الحق الذى يؤسسه، ويقيم بنيان الحكم والشرعية، فتتحول بذلك السلطة إلى سيطرة، وعلاقة الطاعة إلى إكراه وإذعان.
ولا يعنى الاستبداد فى كل الأحوال انتهاك الحاكم للقانون، أو قيامه بتحويل أفعاله وتصرفاته هو إلى القانون، إذ إن أغلب المستبدين يصنعون أو يرعون القوانين التى يقهرون بها شعوبهم، بل قد يعملون على إيجاد نظام قانونى شامل، وفق شرعية أو مشروعية شكلية، تتيح لهم الانفراد بإدارة كل ما يتعلق بالمجتمع.
والاستبداد الذى يعود إلى الكلمة اليونانية ديسبوتيس التى ولدت منها الكلمة الإنجليزية Despot، لا يزال موضوعا أثيرا لدى الباحثين فى شتى العلوم الإنسانية، بل هو السؤال المتجدد فى أذهان الناس بلا انقطاع، وهو المرض الذى لا تكف عدواه عن الانتشار، وضرره عن التوالد، وبشاعته عن التناسل والتوغل فى الأركان والأعطاف كافة. فهو لا يرتبط بالسلطة فى أعلى مراتبها، أى بما يقوله ويفعله الجالسون على العرش أو الكراسى الوثيرة العريضة الكبيرة، بل إنه يطاردنا فى جنبات الحياة الوسيعة بلا هوادة، وبقسوة ضارية.
فالعامل قد يرى الاستبداد متجسدا أمامه فى سلوك صاحب العمل، وفى اللوائح التى تحكم العلاقة بين الطرفين وتهندسها بغلظة. والفلاح قد يلفاه فى صلف مهندس الرى أو موظف «الجمعية الزراعية» الذى يكلمه من طرف أنفه ويقرر ما يضنيه، ويجده الموظف فى تعنت رئيسه المباشر، ومديره العام، ورئيس مجلس الإدارة المسلح بصلاحيات مفرطة، وقد يقابله المشترى من بائع متجلف فى السوق، ولاعب من مدربه، وزوجة من زوجها المتغطرس، وابن من أبيه الذى يتصور أنه ما دام قد أنجبه فقد ملك كيانه ومصيره. ويتحدث العشاق عن استبداد الشوق والوله بهم، لا يستطيعون منه مهربا ولا فكاكا، وقد يستعذبون عذابه، ويستلذون باستحكامه، طواعية وعن طيب خاطر، وهذا هو الاستبداد الوحيد الذى لا يشكو منه الناس، وإن ضجوا منه عادوا إليه راغبين مرحبين.
من أجل هذا يكون البشر دوما نازعين إلى التحرر من قيود لا تنتهى، ما إن يفكوا واحدا حتى يجدوا الآخر، بلا نهاية ولا انقطاع، حتى لو كان مصدر الاستبداد هو الغرائز الجامحة، والرغبات الطافحة، والميل الدائم إلى تحصيل المزيد من القوة والثروة والجاه. ومن أجل هذا يقول الواقعيون إنه لا توجد حرية كاملة، ولا تحرر دائم، فالإنسان «خلق فى كبد» وسيظل كادحا إلى ربه كدحا حتى يلاقيه.
وهناك محاولات لا تنتهى، نظرية وعملية، تطلب عدم الاستسلام بأى حال من الأحوال للاستبداد ومنتجيه وموزعيه، بل إن مقاومته ومواجهتهم فرض عين، وبقدر وجودها واستمرارها وقوة دفعها يكون تواجد الإنسان، وانتصاره للحق والخير فى الحياة الدنيا، وانتظاره للجزاء فى الآخرة من رب العباد، الذى تنبئنا تعاليمه فى جوهرها الأصيل والدفين بأن وزر المظلوم الساكت على الظلم لا يقل عن وزر الظالم، وتجعل أعظم الجهاد هو «كلمة حق عند سلطان جائر».
فى الغالب الأعم، جُبلت النفس الإنسانية على «الفجور» وكانت «التقوى» هى الاستثناء دوما، وسعى الفجار، حين تغلبوا، إلى فرض إرادتهم على غيرهم، متحصنين بكل أسباب التجبر، وساعين إلى حرمان الآخرين من كل ما يمكنهم من نيل حقوقهم، والانتصار لحريتهم، وتعزيز كرامتهم.
وبعض الذين أفرطوا فى الحديث عن «التقوى» و«خشية الله» نسوا كلامهم، وحنثوا بقسمهم، وخانوا عهودهم، بعد أن صدئت قلوبهم، حين جلسوا على كراسى الحكم طويلا، فصارت أقوالهم عن العدل والرحمة حروفا تطير فى الهواء، بينما بقيت أفعالهم عن الظلم والقسوة واقعا يعانى منه الناس فوق التراب وأمام الريح، كما أن بعض الذين وعدوا شعوبهم بالعدل والحرية من خلال احترام القوانين والدساتير، تنصلوا من هذا، وعدلوا فى منظومة القوانين أو انتهكوها حين دانت لهم الأمور، وشعروا بالسيطرة التامة على مقاليدها.
وطيلة القرون الغابرة والعالم لا يعرف من الحكم إلا المستبد، تارة باسم السماء، وتارة بفعل الوراثة أو العرق والسلالة، وأخرى بالتغلب والقهر، سواء بالجند أو العصبة، كما امتد تسويغ الاستبداد إلى ادعاء المستبدين بأنهم الأكثر علما ومعرفة بصالح الجماعة، وأن العوام يفتقرون إلى الشروط الضرورية لممارسة الحكم، وليست لديهم القدرة على فهم الدوافع التى تجعل الحاكم يتخذ القرار على نحو يرونه هم استبداداً بالأمر أو تنكيلاً بهم. وقد يدعى المستبد أن شعبه ليس مؤهلاً بعد للديمقراطية، أو أن الظروف التى تمر بها الدولة تفرض هذا النمط من الحكم.
وبناء على هذه المسوغات لم يكن هناك حاكم ومحكومون على مدار قرون طويلة، بل مالك وأقنان، سيد وعبيد، سلطان ورعية، لا حقوق لها إلا ما يجود به من بيده مقاليد الأمر، ولا حريات لها إلا بقدر ما يغفل عنه أو يتركه عفوا أو استهانة.
ومن أمثلة الحكام المستبدين: الإمبراطور الرومانى كاليجولا، والإمبراطور الرومانى نيرون، والحجاج بن يوسف الثقفى، وجنكيز خان، وهولاكو، وتيمورلنك، والقيصر الروسى إيفان الرهيب، ولويس الرابع عشر إمبراطور فرنسا، وروبسبير طاغية الثورة الفرنسية، وشارل الأول ملك إنجلترا، وتشاى كان شيك طاغية الصين، وأدولف هتلر، وموسولينى، والإمبراطور الإثيوبى هيلاسلاسى، وباتيستا حاكم كوبا، وسالازار طاغية البرتغال، وفرانكو طاغية إسبانيا، وعيدى أمين طاغية أوغندا، ومحمد رضا بهلوى ملك إيران، وبوكاسا رئيس أفريقيا الوسطى، وحافظ الأسد وابنه بشار فى سوريا، ومعمر القذافى طاغية ليبيا.
وحتى العصر الحديث استخدم العلماء والفلاسفة خلال تلك القرون كلمات أو مصطلحات أخرى للتعبير عن الاستبداد، مثل «الطغيان»، الذى عنى به الحكم القسرى الذى يهضم الحرية ويخرق الحكومة الدستورية وحكم القانون. ويقال إن الشاعر اليونانى أرخيلوخوس كان أول من استخدم هذا المصطلح حين أطلقه على الملك جيجيز، لكن هناك من يرد الكلمة إلى القبائل التركية القديمة التى كانت تحيا فى تركستان حاليا واتسمت بالقوة والتوحش، وكان الفرس والروم يسمون بلادهم توران، ومنها جاءت الكلمة Tyrant.
وفى بداية استخدامها لم تكن كلمة طاغية تحمل معنى كريها شريرا، بل ربما كانت مرادفا للملك والحاكم نفسه، مثلما تدلنا مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس، ومع أفلاطون وأرسطو بدأت التفرقة بين المعنيين، وصارت كلمة طاغية تعنى الإكراه والقهر.
وقد اعتبر أرسطو الطغيان حالة مرضية بالنسبة لليونانيين وطبيعية بالنسبة للآسيويين، وربط بينه وبين سعى الملك إلى تحقيق منفعته الشخصية، حتى لو اضطر إلى استخدام العنف، مع تجاهل مصلحة الشعب. أما أفلاطون فعرف «حكومة الطغيان» بأنها سلطة الفرد الظالم، أو الجائر، حيث يسود الجور الكامل بغير خجل.
وعرفت الثقافة العربية ـــ الإسلامية مصطلح «الطاغوت»، الذى يعنى مجاوزة القدر والارتفاع والمغالاة فى الكفر، وبذا يصبح الطغيان هو مجاوزة الحد فى العصيان. وبينما اعتبر الإمام مالك أم الطاغوت هو ما عبد من دون الله فإن ابن القيم الجوزية توسع فى تبيان مدلول المفهوم فرأى أن الطاغوت هو «كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو طاغوت، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله». واعتبر الفقهاء واللغويون أن «الطغيان» أشد وأعم من «العتو»، لأن الأول ينطوى على إكراه مع غلبة وقهر، أما الثانى فهو المبالغة فى المكروه فقط.
كما ينطوى الطغيان على نقيصتى «الجبر» و«القهر» اللتين يمكن للمستبد أن يبتعد عنهما فى ممارسته، أو لا يكون مضطرا بالضرورة إلى تنفيذهما كى يمسك بمقاليد الأمور فى يده، بل قد لا يلجأ إلى أى تصرفات عنيفة ضاغطة على المحكومين أصلا. ومعنى هذا أن الاستبداد يأتى مغلفا بأساليب وخطابات ناعمة تغلفه وتخدع الناس به، أما الطغيان فيمارس وفق تنكيل ممنهج بالناس ورغبة دفينة فى إيذائهم بدنيا ومعنويا.
والمستبد يمكن أن يتحكم فى الأمر ظنا منه أن هذا فى مصلحة شعبه، أو أن الظروف تتطلب هذا، وأنه فى حاجة ماسة إلى هذا التحكم ولو لبعض الوقت حتى يصل إلى الخير الذى يسعى إليه ولا يصبر الناس عليه حتى يبلغه. أما الطاغية فهو مسرف بطبعه فى الموبقات وظلم الرعية والبطش بها، ويقترب أحيانا من التأله، وإرهاب الناس بالتعالى والتعاظم، وعدم التقيد بقانون أو دستور، وتسخير موارد البلاد لإشباع رغباته وملذاته، ورفض الخضوع لأى مساءلة أو رقابة أو محاسبة.