أول مبادئ التفاوض، أن تترك لنفسك ولخصمك فرصة للتراجع عند استحكام الأمور، وفى بديهيات صناعة الأزمات أن تبحث الأطراف عن حل مع ارتفاع سخونة الأحداث، لأن هدف الأطراف أن تحقق المكاسب الممكنة لا أن تحقق نجاحاً ساحقاً على الخصوم، لأنه في أحيان كثيرة غير ممكن.
وداخل أعضاء الوطن والدولة الواحدة، من الأفضل دائماً أن يحاول المتنازعون إعلاء القانون واللجوء للتوافق في حل المشكلات أو عقد اتفاق، لأن الجميع، مؤسسات وأفرادا، من مكونات الدولة.
هذه المقدمة كانت لازمة قبل تناول واقعة دخول الشرطة، مقر نقابة الصحفيين، لتنفيذ قرار الضبط والإحضار الصادر عن النيابة العامة، بحق الزميل عمرو بدر والزميل المتدرب محمود السقا، المحتميين بالنقابة، للتحقيق معهما في اتهامات، تخص خرق قانون التظاهر وتدبير اعتداءات على قوات الشرطة.
أخطأت وزارة الداخلية حين دخلت المبنى، للمرة الأولى في تاريخ النقابة العريقة، قلعة حرية الرأى، المؤسسة ذات اللحم المر، خاصة أن لجوء صحفيين إلى المبنى ليست الأولى من نوعها وعادة ما يتم الاتفاق بين النقابة والشرطة على تسليم المطلوب دون المساس بكرامة النقابة، مع التأكيد على أن تضامن أي نقابة مع أحد أعضائها، من المعروف بالضرورة، حتى لو كان العضو مخطئا، وهو أمر تمارسه جميع المؤسسات، والداخلية مع ضباطها والبرلمان مع نوابه.
ولكن عند تجاوز الأعراف السابقة يجب أن يعرف كل طرف حدود المسؤوليات، وطبيعة الأزمة وأسبابها، وهدفها، حتى لا تختلط الأمور، وتبدو المواقف ملتبسة وغامضة، وجامحة.
دخلت الشرطة، مقر النقابة، بعلم الوزير مجدى عبدالغفار، ومدير جهاز الأمن الوطنى، بهدف لم يكن تنفيذ قرار الضبط والإحضار الصادر بحق بدر والسقا، فقط ولكن لتأديب النقابة التي احتضنت المظاهرات الرافضة لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، والتى شارك فيها صحفيون بينهم أعضاء بمجلس النقابة، وهو أمر غير مستغرب على النقابة التي توغلت فيها السياسة في عهدى الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك.
من تولوا منصب نقيب الصحفيين، عادة ما كانوا قادرين على ضبط الأمور والتدخل لحماية النقابة من الدولة عندما تضيق من الصحافة، وأحياناً من أعضاء النقابة أنفسهم، والذين يورطونها في السياسة الحزبية المعارضة، خاصة أن قطاعاً غير قليل من الصحفيين يرفضون استخدام بعض الفصائل السياسية للنقابة كمنصة لممارسة نشاط معارض للدولة.
أذكر في حوارات جرت بينى وبين نقيب الصحفيين، يحيى قلاش، أنه كان يؤكد لى وقوفه الدائم كحائط صد لشطط رفاقه من الناصريين وأصدقائه من اليساريين، في تلوين المؤسسة العريقة بلون حزبى معين، وكان يقول إن للنقابة دورا هاما كمؤسسة من مؤسسات الدولة، في القضايا الوطنية، وفى الدفاع عن حرية الرأى والدعوة للديمقراطية، وأن دخول السياسة الحزبية أروقة النقابة ينسف هذا الدور بعد إفساده.
ولكن النقيب قلاش وهو منوفى بالمناسبة، ترك المجال لبعض أعضاء المجلس، لاستغلال النقابة سياسياً لمصلحة بعض الحركات المتحالفة مع جماعة الإخوان، والمناوئة للدولة والرئيس عبدالفتاح السيسى بالتبعية، ولم يستطع النقيب طوال الفترة الماضية في ولايته أن يلجم جموح هؤلاء لتبدو النقابة شوكة في ظهر الدولة في مرحلة عصيبة تمر بها البلاد.
على الجانب الآخر، لا يمكن أن تشعر في مواجهة وزارة الداخلية، التي يقودها منوفى آخر، (الوزير) إلا بالدهشة والامتعاض وغيرها من المشاعر السلبية، لأن الوزارة أصبحت مصدراً للإزعاج، واختلاق الأزمات، وإشاعة التوتر، ويبدو واضحاً أنها مثل جميع المؤسسات لم تنضح بعد، فلجأت إلى الخشونة مع النقابات، خاصة أن واقعة النقابة تؤلم نفس كل صحفى حتى لو اختلف مع توجهات مجلس النقابة.
من الضرورى التأكيد على أن وزارة الداخلية ومن وراءها خططوا للإيقاع بالنقابة، كى تتراجع عن تصدر مشهد «قلقلة» كرسى الرئيس السيسى، من خلال احتضان مظاهرات رفض إعادة جزيرتى تيران وصنافير، والمطالبة في مناسبات عديدة بالإفراج عمن سمتهم «الصحفيين المعتقلين» ومعظمهم ينتمون لجماعة الإخوان وحلفائها من بعض القوى المدنية. واستطاعت الدولة ممثلة في وزارة الداخلية بالفعل، دفع النقابة إلى الاهتمام بالدفاع عن نفسها، ونفى صفة ممارسة السياسة والوقوف في وجه الدولة والرئيس، وتبارى معظم أعضاء مجلس النقابة وعلى رأسهم النقيب، يحيى قلاش، في التأكيد على أن النقابة لا تناوئ السيسى وأنها إحدى مؤسسات الدولة، كما تراجع هؤلاء عن التمسك بضرورة اعتذار الرئيس لجموع الصحفيين، ووصل التراجع إلى حد رفض النقيب وضع شروط لحل الأزمة.
ووسط المشكلة اتضح أن النقابة أصابها ما أصاب جميع المؤسسات، من أعراض قلة الخبرة، وضعف البناء، وغياب الأهداف، فاستهان النقيب بوجود مطلوبين للنيابة في مبنى نقابته رغم أنه لم يحصل على تأكيدات من وزارة الداخلية، بأنه أمر بدر والسقا سيتم إرجاؤه إلى ما بعد انقضاء إجازات عيد العمال وشم النسيم.
ما يؤكد قلة خبرة مجلس النقابة، هو مسارعته للدعوة إلى اجتماع لأعضاء النقابة، والادعاء بأنه اجتماع للجمعية العمومية، الذي يلزم انعقاده حضور ما يزيد على 4 آلاف عضو، وهو أمر يبدو أن المجلس رأى أنه لم يتحقق، فتحايل على قانون النقابة ومصلحتها، ووضع حجر أساس لشق صف الصحفيين، حيث صدر عن الاجتماع غير القانونى، مطالب وتوصيات، تمثل تعدياً على سلطة الجمعية العمومية التي تملك وحدها حق إصدار قرارات ملزمة لأعضائها.
ونسى المجلس أن الأزمات تحتاج إلى عقل بارد وقلب هادئ، وأنه كان يجب دعوة حكماء المهنة ونقباء الصحفيين السابقين، لفك شفرة الفخ المعد للنقابة، ووضع خطة للتعامل معه بشكل يعيد للنقابة هيبتها، ويضع حدوداً جديدة لتعامل مؤسسات الدولة مع بعضها البعض، وهو ما تداركه المجلس في البيان ولكن بعد فوات الأوان، لأنه وضع في نفس البيان خطة للتصعيد ضد الدولة، لا يمكن التراجع عنها.
أما الدولة فتعاملت مع سلوك النقابة السياسى في الفترة الماضية، باستخدام أدوات الدولة الغاشمة الغشيمة التي تجلب البسطاء والبلطجية والشراشيح، لتوجيه السباب إلى الصحفيين، بعد أن اخترقت الهيبة الأدبية لمبنى النقابة، بدخوله، ووضعت حواجز أمنية حوله. تناسى صناع قرار الأزمة، أن الدولة التي يأمل المصريون في إعادة بنائها، دولة حكيمة عاقلة تسمع وترى وتناقش وتقنع، وتستخدم الحوار للبحث عن حلول وتفادى الصدامات بين أطرافها، خاصة أنه كان يمكن لأى مسؤول أن يعبر بوضوح أو عبر قنوات الاتصال مع النقابة من خلال النقيب أو بقية أعضاء المجلس، عن رفض الدولة تجاوز النقابة لدورها واحتضان نشاط سياسى معادى للمصالح الوطنية. الدولة والنقابة الموجودتان حالياً، ينتميان للماضى، الأولى ترى الحوار آلية تظهرها بموقف الضعف، أما الثانية فتتعامل وكأنها لا تزال منصة للمعارضة، وتدافع عن أعداء المجتمع، (الإخوان)، وتوجه سهامها لرئيس الجمهورية، رغم أنه لم يعد من الناحية الدستورية صاحب السلطة العليا في الدولة، وخلال الأزمة الأخيرة، بدا أن بعض الأطراف ستكشف موقف الرئيس، خلال محاولة إبعاد المشكلة عن قصره الجمهورى بالتأكيد على أنه غير مسؤول عن الواقعة وليس من صلاحياته إقالة وزير الداخلية، ولكن الأمر في يد البرلمان.