مدينتان ارتبطتا بصناعة الغزل والنسيج وارتبطت بهما، وبين هذه العلاقة وتلك تعلقت حياة مئات الآلاف من العمال وأسرهم، من أبناء شبرا الخيمة والمحلة الكبرى، مهد صناعة الغزل والنسيج وعاصمتها، منذ أسس طلعت باشا حرب شركة مصر للغزل والنسيج فى المدينة عام 1927، فى محاولة لبناء اقتصاد وطنى قوى.
عاشت المدينتان وعمالهما وأبناؤهما كافة عصرًا ذهبيًا، ارتبط هو الآخر بالعصر الذهبى لصناعة النسيج، اكتسبتا فى ذلك التوقيت وصفهما بأنهما قلعتا مصر الصناعية الكبرى. عُرف عن عمالهما فى ذلك التوقيت المهارة فى العمل، وعُرف عنهما أيضًا تقديسهما له، ذلك وغيره، قبل أن تعرف الصناعة طريقها إلى الانهيار فى منتصف التسعينيات، خاصة مع قرار تحرير القطن، الأمر الذى انعكس هو الآخر على واقع المدينتين وعمالهما ومصانعهما.
«بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللى إنتو بتزرعوه.. ويعمل منه القماش اللى إنتم بتلبسوه، كنا زمان بنزرع القطن لياخده منا الإنجليز، إحنا النهارده بنزرع القطن، وهانحوله إلى قماش، إحنا اللى هنزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شىء من مصر صناعة وطنية، ابعتوا ولادكم يتعلموا صنعة وهاياخدوا أجر كويس».. هكذا طاف المنادون على القرى المحيطة بالمحلة، مرغبين أبناءها فى العمل بالشركة الوليدة، كما نقل لنا العامل «فكرى الخولى» المشهد الذى وقع فى عام 1927، فى روايته «الرحلة».
لم يكن التاريخ المذكور تاريخًا لولادة شركة غزل المحلة على أيدى طلعت باشا حرب فقط، وإنما تاريخ ولادة صناعة الغزل والنسيج المصرية بشكلها الحديث، وتاريخًا لولادة مدينة المحلة بصورتها المعروفة عليه اليوم، حول أسوار الشركة، فالعمال الذين جاءوا من كل القرى المحيطة بالمحلة، والذين عرفوا بـ«الشركاوية»، استقروا إلى جانب عملهم الجديد، فظهرت أحياء جديدة لم تعرفها المحلة القديمة من قبل مثل حى الجمهورية والبرج.
بدأت شركة غزل المحلة عملها بـ 2000 عامل، وصلوا فى عام 1952 إلى 16 ألفًا، حتى بلغوا 35 ألف عامل فى عام 1986، بعد ذلك بخمس سنوات، صدر قانون 203 لعام 1991، الذى حوّل شركات القطاع العام إلى شركات قطاع أعمال، وحوّل شركات الصناعة الوطنية إلى مجرد شركات تابعة لشركة قابضة، تلى ذلك قرار تحرير القطن المصرى عام 1994، وهما القراران اللذان كان لهما كبير الأثر على صناعة الغزل والنسيج فى مصر بشكل عام والمحلة الكبرى بشكل خاص، ففى عام 2007، انخفض عدد عمال شركة غزل المحلة إلى 27 ألف عامل، وصلوا إلى حوالى 16 ألفاً فى العام الجارى.
ورغم تقليص عدد عمال غزل المحلة بشكل كبير، حيث وصل إلى أكثر من 50% بين عامى 1986 و2016، إلا أن نسبة الأجور من إجمالى مبيعات الشركة زادت من 30% تقريبًا فى 1986 إلى 93% فى 2015، حيث بلغت قيمة مبيعات غزل المحلة فى 1986 حوالى 233 مليون جنيه، وبلغت الأجور حوالى 71 مليونًا، (سعر الدولار فى ذلك الوقت كان يساوى 138 قرشًا)، فيما كان عدد عمال الشركة 35 ألف عامل، هذا فيما بلغت الأجور فى 2015 حوالى 732 مليون جنيه، والإيرادات 820 جنيهًا (سعر الدولار فى ذلك الوقت كان يساوى 855 قرشًا)، فيما كان عدد عمال الشركة 17 ألف عامل.
إلى جانب شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، أقيمت فى قلعة الصناعة المصرية آلاف المصانع، تصل فى بعض التقديرات إلى أكثر من 6 آلاف مصنع، ما بين نسيج وملابس جاهزة وتطريز وصباغة، إلى جانب ورش مرتبطة بهذا النوع من الصناعة، إلا أن الجميع كان يعتمد بشكل كبير على شركة غزل المحلة، التى يصفها نائب رئيس مجلس إدارة رابطة أصحاب المصانع بالمحلة، إبراهيم الشوبكى، بـ«القاطرة.. إذا توقفت توقفنا جميعًا، وإذا تعثرت تعثرنا جميعًا، من مصلحتنا كأصحاب مصانع أن تستمر شركة غزل المحلة فى العمل».
من بين 1200 مصنع نسيج فى المحلة، أغلق 480 مصنعًا أبوابه من بعد 2011 فقط، إلى جانب مصانع أخرى أوقفت العمل جزئيًا، كما يؤكد إبراهيم الشوبكى: «كل من يعمل فى هذه المهنة مهدد بالحبس، جميعنا أصبحنا نعمل ونحلم بألا يكون المصير فى النهاية هو السجن، حتى إننى طلبت من الوزير أشرف العربى، فى لقاء سابق، سن قانون إفلاس للخروج من هذه المهنة دون بهدلة».
«العمالة المدربة» واحدة من المميزات التى عُرفت بها مدينة المحلة الكبرى فى وقت سابق، فيما يشكو عمال المصانع اليوم من افتقار وجود هذه العمالة فى المدينة، كما هو الحال فى مصر كلها، يقول أحمد الشريف، صاحب مصنع: «كأصحاب مصانع نبحث عن عمال مدربين، لكن للأسف لم يعد هناك وجود لهؤلاء العمال، فى الماضى كانت الشركة توفر مركزًا للتدريب، وكانت هناك إعدادية صناعية، وكانت المدارس الصناعية فى المدينة تعمل على تدريب طلابها بشكل عملى، ما كان يوفر علينا عناء التدريب».
ويضيف «الشريف»: «تدريب العامل اليوم يكلف صاحب المصنع، لأنه يتسبب فى إهدار مواد خام، لكن المشكلة الأكبر أن العامل بعد أن ينهى تدريبه ويستطيع تشغيل الماكينة يفضل الذهاب للعمل فى مكان آخر، ما يعنى أن صاحب المصنع يتحمل الخسارة وصاحب مصنع آخر يستفيد».
يقول نائب رئيس مجلس إدارة رابطة أصحاب المصانع بالمحلة، إبراهيم الشوبكى: «عدم وجود عمالة مدربة فى المحلة مثل الماضى تغيُّر شهدته المدينة مثل تغيُّرات أخرى، فى الماضى كانت شركة غزل المحلة بها المدرسة الإعدادية الصناعية، وكانت تدرب الأطفال الصغار، وتفهمهم على أسلوب العمل داخل الشركة، التى يلتحق بها الطالب فور تخرجه فى المدرسة».
يضيف «الشوبكى»: «أنا أنتمى لهذا الجيل وأفخر به، كان يلتحق بالإعدادية الصناعية التلاميذ فور انتهاء دراستهم فى المدرسة الابتدائية، ورغم أن ترتيبى كان العاشر على مستوى الجمهورية فى الشهادة الابتدائية، إلا أننى التحقت بها بسبب ظروف عائلية، كان مكان المدرسة داخل الشركة، فى مكان مركز التدريب الآن، درست فيها 3 سنوات، كنا نقضى خلالها 4 أيام داخل الشركة ويومين فى المدرسة، فزرعت بداخلنا الانتماء للعمل ولشركة غزل المحلة، بعد ذلك حصلت على دبلوم ثانوى صناعى، ثم معهد فنى صناعى فى شبين، والذى تم تحويله لكلية هندسة وحصلت منه على درجة البكالوريوس، وأصبحت مهندسا فى شركة غزل المحلة، ثقافة العمل هذه تغيرت، وكل ذلك بسبب 30 عامًا من الفساد فى عصر مبارك».
يقول محمد إسماعيل، صاحب مصنع البرلسى للنسيج: «صناعة الغزل والنسيج هى العماد الأساسى لدخل الأسر فى مدينتى المحلة الكبرى وشبرا الخيمة تحديدًا، ليس فقط العاملين فى الصناعة فى هاتين المدينتين، وإنما العاملون فى كل ما يخدم هذه الصناعة، سواء ورشا أو مصانع لمراحل مختلفة من مراحل إنتاج المنتج النهائى، مثل البوش والسده وغيرهما».
ويضيف إسماعيل: «معظم أبناء المحلة الكبرى وشبرا الخيمة يعملون، أو كانوا يعملون فى صناعة الغزل والنسيج، والصناعات المرتبطة بها، وبالتالى فإن أى تدهور فى هذه الصناعة يصيب أبناء المدينتين، وكذلك أى انتعاشة تعود على الجميع، فالمصنع إذا عمل ساعات عمل إضافية على سبيل المثال فسيزيد من دخل العامل، على عكس توقف العديد من المصانع كما يحدث الآن، ما يتسبب فى تسريح آلاف العمال».
يقول إبراهيم الشوبكى: «الأعباء الحكومية زادت علينا، وندفع 12 نوعًا من الضرائب، من المفترض أن تدعمنا الدولة، لأننا نساهم فى تشغيل أيدى عاملة، صناعة الغزل والنسيج تحصل فى دول أخرى على دعم يصل إلى 37%، مثل الهند وباكستان، أما فى مصر فالمصانع تدفع ضرائب عقارية، وأسعار المياه والغاز والكهرباء فى زيادة، حاولنا أن نطالب بتعديل قرار الزيادة قالوا لنا نحن فى مرحلة جديدة، وهناك رئيس جديد للبلاد يحتاج دعم رجال الصناعة.. لم نعترض، لكن الصناعة بهذا الشكل ستنهار».
ويضيف «الشوبكى»: «أحد أهم الأسباب التى أدت لإغلاق المصانع فى المحلة هو التهريب. لا توجد رقابة فى الدولة، والحاوية المهربة التى تدخل البلاد كفيلة بإغلاق مصنع، حيث تسع لـ 24 طنا. الغزول المهربة أصبحت مصبوغة، وتباع أرخص من سعرها فى السوق، لأن هناك تكنولوجيا عالية لم تستخدم فى مصر بعد، تستعمل فى صباغة القطن فى مراحله الأولى، وهو مازال شعرًا، أما فى مصر هنا فيمر بمراحل نتاج مختلفة، وكل مرحلة لها مصاريفها الخاصة بها».
وتابع نائب رئيس رابطة أصحاب المصانع بالمحلة: «تم إغلاق مئات المصانع، الأعباء الملقاة على كاهل أصحاب المصانع تجعلهم يغلقون أو ينتجون ويضعون منتجاتهم فى المخازن، وهناك مصانع فى المحلة تم هدمها وبناء أبراج بدلًا منها، أما العمال فإما يذهبون لمصنع آخر مازال صامدًا، أو يذهبون للعمل على توك توك، التكاتك أخذت العمال، فبعدما كان العامل يقف على ماكينة وينتج أصبح يفضل العمل على توك توك».