نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية
فى 30 إبريل الماضى، توفى الأب والشاعر والناشط المناهض للحرب دانيال بيريجان عن عمر 94 عاماً، ليسدل الستار على الفصل الأخير لحياة مناضل اصطدم بالحكومة والكنيسة الكاثوليكية بسبب تمرده وعصيانه المدنى المتكرر، لكنه الصدام الذى نصبه واحد من أبرز راديكاليى اليسار خلال عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.
ففى مايو 1968، شارك الأب بيريجان، ابنه القس فيليب بيريجان، و7 نشطاء آخرين اقتحام أحد مكاتب الخدمة العسكرية الانتقائية فى كاتونفيل، وحرقوا مئات الملفات وتمت محاكمتهم ووجهت لهم اتهامات تخريب ممتلكات الدولة، وعن هذا الحدث كتب بيريجان مسرحية بعنوان «محاكمة 9 كاتونفيل»، وكتب فيها: «عذراً أصدقاءنا الأوفياء على تخريب النظام القويم، وحرق الوثائق بدلاً من حرق الأطفال، وعلى إثارة غضب مناصرى النظام».
وبعدها بعقود ظل اسم بيريجان يردد باعتباره نموذجاً للرجل الذى لا يحيد عن قناعاته ومبادئه، والصامد فى مواجهة الزمن من أجل الفقراء والمقموعين، وإن كان «بيريجان» فى سنواته الأخيرة لم يعد يمتلك من القوة البدنية ما يجعله قادراً على الاحتجاج والتمرد كحاله فى الماضى، فإنه بلا شك كان سيتقدم صفوف المحتجين على التوسع فى حروب الطائرات دون طيار التى تمت تحت إدارة أوباما لو كان أصغر عمراً.
ينضوى برنامج الطائرات دون طيار على العديد من المعضلات السياسية والأخلاقية والدستورية، وما يجعل من الصعوبة بمكان إبداء أى إجابات فى هذا الشان، هو رفض إدارة أوباما حتى الاعتراف بهذا البرنامج حتى نهاية 2013، إلا أنه باقتراب ولاية أوباما من النهاية، تتكشف العديد من التفاصيل الصادمة عن طبيعة عمل هذا البرنامج، والتى تم جمعها فى كتاب بعنوان (The Assassination Complex) أو «مجمع الاغتيالات»، من تأليف جيرمى شاهيل وعدد من محررى موقع «إنترسبت» الأمريكى، ويتناول فى الجزء الأكبر منه اعترافات عدد ممن سربوا وثائق تكشف طبيعة استخدام الولايات المتحدة لحروب الطائرات دون طيار فى الصومال وليبيا وأفغانستان، بداية من عام 2011 حتى عام 2013، كما تكشف عن الإخفاقات التى وصمت إدارة أوباما على المستوى العملى والقانونى والأخلاقى، بفعل توسعه فى هذا النوع من الحروب.
قد يبدو استخدام الطائرات دون طيار للمحاربين الجدد أمرًا جيدًا، من ناحية قتل الأفراد، غير أن نجاحها كأداة فعالة فى الحرب ضد الإرهاب لم تُؤكَّد بعد، فقد تسبب تبنى أوباما لهذا النوع من الحروب فى خلق حالة من تفضيل القتل على أسر الإرهابيين، وشملت الوثائق التى تم تسريبها دراسة صادرة عن «قوة مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع بوزارة الدفاع الأمريكية»، وخلصت إلى أن عمليات القتل التى تتم بموجب حروب الطائرات دون طيار، تقلل من حجم المعلومات الاستخباراتية المتاحة التى يتم الحصول عليها من المحتجزين والأحراز التى يتم الحصول عليها.
وقال الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الرئيس السابق لهيئة استخبارات الدفاع، العام الماضى: «حين تسقط قنبلة من طائرة دون طيار، فإنها تحدث خسائر أكثر مما تحقق مكاسب»، بل تؤدى إلى ظهور المزيد من الإرهابيين الراديكاليين، وهذا من الناحية العملية، أما من الناحية القانونية والدستورية، فتوضح الوثائق المسربة أن السهولة المفزعة التى يتم بها التخلص من المدنيين الأبرياء، سواء أمريكان أو غيرهم، تضاف إلى قاعدة بيانات الإرهاب لدى الحكومة الأمريكية، إذ اشتمل ملف تم تقديمه للمحكمة عام 2014، على اعتراف الحكومة الأمريكية أن هناك 469 ألف شخص تم تحديدهم فى 2013 ليتم تضمينهم فى قاعدة بيانات الحكومة باعتبارهم «إرهابيين مشتبها بهم»، ولم ترفض المحكمة من كل هذا العدد الضخم سوى 4900 فقط منهم. وكان افتراض براءتهم، ورغم أن اسم أسامة بن لادن كان مدرجاً ضمن القائمة قبل قتله بفترة طويلة، فإن القائمة شملت أيضاً اسم عبدالرحمن الولاكى، مواطن أمريكى برىء يبلغ من العمر 16 عاماً، لقى مصرعه فى ضربة جوية لطائرة دون طيار.
علاوة على ذلك، فإن الوثائق توضح مبالغة البيت الأبيض فى خوض هذا النوع من الحروب، ففى مايو 2013، قال أوباما إن شن الضربات الجوية للطائرات دون طيار ستستهدف فقط من يمثلون خطورة على أمن أمريكا وشعبها، وحين يكون ثمة يقين، وإن كان ضعيفاً، أن الضربات لن تسفر عن سقوط ضحايا مدنيين، لكن الوثائق توضح أنه حين يصدق الرئيس الأمريكى على استهداف أشخاص بضربة جوية، تكون ثمة فترة تصل إلى 60 يوماً متاحة لكل من البنتاجون وسى آى إيه قبل الشروع فى التنفيذ، وهى فترة ليست بالقليلة لمعرفة كل شىء بشأن الضربات ومواقعها، لكن المثير ما أوضحته الدراسة بشأن حقيقة أن «عدم سقوط ضحايا مدنيين» ليس هو المعيار أو على الأحرى الشرط الذى يتعين الوفاء به قبل الشروع فى توجيه ضربة جوية، وإنما الشرط هو تدنى حجم الأضرار الجانبية التى تسفر عنها الضربات.
وبعد هذا بـ 8 سنوات تقريباً، أدى قرار أوباما المتعلق بالتوسع فى حجم هذا النوع من الضربات، إلى مقتل المئات من المدنيين الأبرياء، وهو توسع كذلك فى نفوذ الرئاسة ألحق ضرراً كبيراً بقدرة الولايات المتحدة على محاربة الإرهاب.
وما يثير الإحباط أكثر بشأن السياسة التى صاغها أوباما أن من يخلفه سيعمل على توسيع برنامج حروب الطائرات دون طيار، وإن كان أوباما حاول أن يعطى انطباعاً بأنه يراعى المعايير الأخلاقية والدستورية، فإن مرشحة مثل هيلارى كلينتون لم تتردد فى الدفاع عن البرنامج داخل البيت الأبيض وفى مذكراتها، أما ترامب فقد قطع على نفسه عهداً علنياً أن يمضى قدماً فى محاربة الجريمة التى تخل من تطبيق هذا البرنامج، وسيظل البرنامج جزءاً مخزياً من إرث رئاسة أوباما.
ترجمة - أمانى عبدالغنى