توقفت طويلا عند هاتين الآيتين من سورة يونس:
«قَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَايُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَاتَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».
■ ■ ■
الأصل فى النبى أنه جاء رحمة لقومه. لا شك أن عناء شديدا هو الذى دفع برسول، من أولى العزم من الرسل، إلى هذا الدعاء الساحق الماحق. ها هو ذا موسى عليه السلام، الذى كلمه ربه تكليما، موسى الذى قيل فى حقه من عبارات المحبة ما لا يكاد عقلى يستوعبه. موسى الذى صُنع على عين الله، وألقى عليه المحبة، يصل به اليأس من هداية فرعون أن يرفع هذا الدعاء الشديد!
■ ■ ■
تأمل معى هذه الكلمات (قَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).
الملأ هو الصفوة من القوم. النخبة التى تعلو فوق العامة. ولعله البيت الملكى الذى انحدر منه فرعون. هذه الارستقراطية قدّم إليها ربها بالنعم: الزينة والمال. وكلنا شاهدنا المتحف المصرى ورأينا الزينة المشغولة التى ما زالت تحتفظ بطزاجة ألوانها بعد آلاف السنين. القناع الملكى المطعم بالجواهر، والكراسى الذهبية المجدولة، والحلى المشغولة. زينة! وأى زينة! ولكن ماذا فعل بها فرعون سوى أن طلب بها طريق الضلال؟
■ ■ ■
يدعو موسى: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَايُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ».
يا لها من دعوة مروعة. لا أقصد ضياع المال والزينة فقط، وإنما أن يدعو على فرعون ألا يؤمن حتى يرى عذاب الآخرة. وقتها يصبح الإيمان كعدمه.
لا شك أنها دعوة هائلة. قاسية. ولا شك أيضا أنها دعوة مُستحقة. كم من الملاحم جرت بين موسى وفرعون، وكان ينبغى عليه أن يؤمن.
كان ينبغى عليه أن يؤمن حين شاهد العصا تتحول إلى ثعبان. وكان ينبغى عليه أن يؤمن حين سجد السحرة. وحين أرسل الله الطوفان والجراد، وامتلأ وادى النيل بالضفادع، وتحول النهر إلى دماء!
وكان ينبغى عليه أن يؤمن حين شاهد البحر يفقد حالته السائلة وينفلق إلى جبلين، فمضى بغفلته وعناده إلى حتفه كافرا.
والعجيب فعلا أن موسى لم يطلب من فرعون الكثير. لم يطلب منه أن يتنحى عن ملكه. كل ما طلبه منه أن يرسل معه بنى إسرائيل. وما كان أسهل أن يجيبه إلى هذا الطلب البسيط ويجنب نفسه كل هذه الكوارث!
■ ■ ■
لكن الأمر الذى يخلع القلب هو التعقيب الإلهى على هذا الدعاء الشديد:«قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَاتَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».
ترى ما الذى شعر به موسى من التهيب حين أمره الله بالاستقامة! أى استقامة وهو النبى المُجتبى؟ هذه درجات من المحبة لا تتسع لها عقولنا. هل طلب منه أن يفكر فيه سبحانه ليل نهار؟ هل طلب منه ألا يخرج منه نفس إلا وحرارة أنفاسه ملتهبة بحبه؟ أن تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ أن تستقيم الذرات التى يتكون منها جسده؟ أن تطوف إلكتروناته فى مدار محبته؟ أن ينخلع موسى عن ذاته بالكلية ويذوب فى محبة خالقه؟
كلها أسرار سكت القرآن عنها، ربما رفقا بقلوبنا الصدئة ألّا تتحمل ثقل هذا المقام العظيم.