إسنا الواقعة جنوب محافظة الأقصر، بسيون بمحافظة الغربية، دسوق بكفر الشيخ، إدفو فى أسوان، جميعها مدن اشتُهرت بصناعة السمك المملح «الفسيخ»، الذى ارتبط بأعياد شم النسيم، أى أعياد الربيع الفرعونية، فشهدت جدران المعابد بالأقصر على تصنيع الفراعنة الفسيخ من أسماك «قشر البياض» وطرق تمليحها وارتباطها بالاحتفال بأعياد الربيع.
ورغم انتشار صناعة الفسيخ فى مختلف بقاع مصر، إلا أن مدينة «نبروه» التابعة لمحافظة الدقهلية، والتى تبعد حوالى 7 كيلومترات عن مدينة المنصورة، تُعد من المدن التى اتخذت من صناعة وتجارة السمك المملح والسردين أحد مصادر الدخل الرئيسية، فعلى بعد أمتار قليلة من مدخل المدينة تنتشر محال بيع الفسيخ على جانبى الطريق الرئيسى، وتفتح أبوابها منذ الساعة العاشرة صباحًا حتى غروب الشمس، ولكن هذه الأيام مع اقتراب أعياد شم النسيم فجميع محال ومصانع الفسيخ بنبروه فى حالة طوارئ حتى الانتهاء من الموسم.
«شعير، اليمانى، الغلبان، الحداد، الملاح» أسماء عائلات أسَّست صناعة الفسيخ بمدينة نبروه بالدقهلية، حيث ارتبطت صناعة الفسيخ فى المدينة ببداية الاحتلال الإنجليزى لمصر، فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى، بعد أن استولى عدد من الإنجليز على معظم الأراضى الزراعية بالمدينة، ما اضطر عددا كبيرا من أبناء نبروه إلى البحث عن مهنة أخرى، فكان الصيد وتمليح الأسماك وبيعها للمدن والقرى المجاورة، حتى ذاع صيتها فى هذه الصناعة، لدرجة أنهم أطلقوا على نبروه «مدينة الفسيخ»، واشتُهرت بتصنيعه طوال العام، وأصبح وجبة أساسية لأهل المدينة.
45 مصنع فسيخ تمثل بنية الصناعة فى نبروه، ومع اقتراب موسم شم النسيم وتزايد الإقبال على شراء الأسماك المملحة، يتوافد المواطنون من كل المحافظات إلى المدينة ذات السمعة الكبيرة فى الصناعة.
مندوه شعير، الملقب بـ«شيخ الفسخانية» بمدينة نبروه، رغم أن عمره 87 عامًا، إلا أنه يحرص على الوقوف صباح كل يوم داخل محله ليتابع سير العمل، مشيرًا إلى أنه أورث المهنة كما ورثها، إلى أبنائه الثلاثة وأحفاده الذين حرصوا على امتهانها، بجانب دراستهم.
يروى «شعير» تاريخ عائلته الذى ارتبط بتاريخ الصناعة فى نبروه، قائلا: «بدأت العمل فى المهنة منذ 75 سنة، وتعلمت الصنعة من جدى، بس الدنيا بقت غير الدنيا، المحلات بقت أكبر، وعلى الشوارع الرئيسية»، ويضيف الرجل الثمانينى: «الصنعة لم تتغير عن زمان، ولكن المحال حاليا شكلها أفضل».
ويتابع: «كان فيه 3 دكاكين فقط مشهورة فى نبروه مملوكة لـ3 عائلات كبيرة فى تصنيع الفسيخ، هى: أبوشعير والملاح وأبوعيسى».
ويُرجع «شعير» جودة الفسيخ إلى نوع السمك المستخدم فى تصنيعه، ويرى أن الأسماك الحالية جودتها أقل عن الماضى، «زمان كان عندنا نيل وبحيرات، والبحر نفسه كان مليان سمك وصيادين. السمك كان سمك بجد، وسعره رخيص، دلوقتى مفيش نيل، والبحيرات راحت، والبحر خيره قل».
بحيرات المنزلة والمطرية والبردويل وملاحة بورفؤاد أهم مصادر الأسماك التى كان مصنعو الفسيخ فى نبروه يعتمدون عليها، حسب «شعير»، الذى أرجع سر الجودة فى الماضى إلى جودة أسماك البحر والنيل التى كانت تعتمد عليها الصناعة، بعكس الوضع الحالى القائم على أسماك المزارع، التى يرى أنها أقل جودة من إنتاج البحيرات والنيل والبحر، لأنها تعتمد فى التغذية على الأعلاف التى تختلف من مزرعة لأخرى.
ويُرجع اختلاف جودة الفسيخ من مكان لمكان إلى اختلاف الصنايعى، «الصنعة دخلها ناس كتير مش ولاد كار، وده بيظهر فى اختياراتهم للسمك الردىء أو المخزون لفترات طويلة أو المعلوف بعلف ضار، لكن الصنايعى هو اللى بيختار السمك الصحى والسليم، وعنده خبرة فى اختيار السمك».
ويكشف شيخ الفسخانية أن طريقة التصنيع لم تختلف كثيرًا عن السابق، فقديمًا كان يتم تغليف الفسيخ أو وضعه على الأرض لمدة يوم، ثم يتم تمليحه لمدة أسبوع، أما الآن فقد اختلف الوضع مع ظهور إمكانيات حديثة.
ويؤكد الشيخ الثمانينى أن النظافة والأمانة أساس الصنعة، فالزبون يفضل معاملة البائع الذى يثق فيه منذ سنوات.
وردا على حملات وزارة الصحة التى تحذر من تناول الفسيخ، قال الحاج «مندوه»: «الفسيخ مابيضرش خالص، لكن البنى آدم جسمه مش بيقبل الملوحة، وعنده الضغط وأمراض القلب، ما يسبب له مشكلات صحية بسبب الملوحة المرتفعة، لكن الفسيخ نفسه ليس ضارًا، طالما طالع من إيد صنايعى واتصنع بطريقة صحيحة».
مندوه محمد شعير، 35 عامًا، حفيد شيخ الفسخانية، صاحب محال ومصنع لتصنيع وبيع السمك المملح، قال إن شهرة المدينة فى صناعة الفسيخ ترجع إلى الاهتمام باختيار أجود أنواع الأسماك للتمليح، والاهتمام بنظافة المصانع والمحال، ومراعاة الشروط الصحية.
وأضاف «مندوه»، الذى ينتمى إلى إحدى العائلات التى أسست لصناعة الفسيخ فى نبروه، أن هناك أنواعا محددة من الأسماك تُستخدم فى تصنيع الفسيخ، هى «البورى والطوبار»، مشيرًا إلى أنها تأتى من المزارع السمكية من محافظات مختلفة كالدقهلية أو بورسعيد.
وأوضح أن الفرق بين الفسيخ الجيد والأقل جودة يرجع إلى اختيار المزرعة السمكية التى تُعد مصدر المادة الخام للصناعة.
أغلب مصانع الفسيخ بـ«نبروه» تتواجد إما فى منازل أصحابها أو فى المحال، وجميعها ترفع حالة الطوارئ فى ثلاثة مواسم بالسنة، الأول هو موسم شم النسيم، والثانى قبل شهر رمضان، والثالث موسم عيد الفطر.
وعن الاستعدادات للموسم، قال: «نستعد بشراء كميات كبيرة من أسماك البورى والطوبار قبل الموسم بشهر من المزارع السمكية التى نعمل معها، ثم يتم تمليح السمك وتركه لمدة كافية حتى تكتمل عملية التمليح خلال 21 يومًا، وهى الفترة التى أجازتها وزارة الصحة، وبعدها تبدأ عملية البيع، التى يصبح الفسيخ خلالها جاهزًا للاستخدام خلال 6 أشهر، هى مدة صلاحية الفسيخ المعتمدة من وزارة الصحة».
وداخل بيت كبير مكون من 4 أدوار فى شارع ضيق، يقع مصنع «شعير» للفسيخ، الذى أسَّسه جده فى الدور الأرضى للمنزل.
ويغطى إنتاج المصنع 10 محال، رغم مظهره الذى لا يوحى بهذا الحجم من الإنتاج، لكن ذلك حال معظم مصانع الفسيخ فى نبروه، إذ إن معظمها لا يبدو بالضخامة التى تتناسب مع حجم إنتاجها، وهى إما مصانع صغيرة داخل كتل سكنية، أو داخل المنازل فى أدوار مخصصة، أو معامل صغيرة داخل محال بيع الفسيخ.
وأكد «مندوه» أن هناك اشتراطات صحية تفرضها وزارة الصحة على أصحاب مصانع الفسيخ قبل منحهم التصاريح، أهمها توافر مصدر دائم للمياه، وأن تكون الحوائط من السيراميك سهل التنظيف، مع توافر براميل خشبية محكمة الإغلاق، بالإضافة إلى توفير وسائل التبريد والتكييف التى تضمن ألا تقل درجة حرارة المصنع عن 18 درجة مئوية.
وتابع أن وزارة الصحة تُجرى حملات تفتيش شهرية على محال الفسيخ، لمراجعة التراخيص وسحب عينات من الأسماك المعروضة لتحليلها فى ثلاثة معامل، للتأكد من سلامة الفسيخ.
وأوضح أن كثافة الحملات تزداد قبل شم النسيم، مؤكدًا أن معظم تجار ومنتجى الفسيخ فى نبروه يراعون الاشتراطات الصحية سواء فى تصنيع أو تخزين أو بيع الفسيخ، وهذا سر شهرة المدينة بجودة منتجاتها.
وعلى الرغم من أن هناك عزوفا من الشباب عن العمل بالمهن التقليدية، إلا أن مهنة تصنيع الفسيخ تجد رواجا فى نبروه، ففى المواسم تزداد الحاجة إلى استقدام أيدٍ عاملة للمصانع لتفى بحاجة المحال، ويعمل بالمهنة الكثير من شباب المدينة، إذ يحتاج المصنع إلى 3 عمال أساسيين «عمالة دائمة» ترتفع إلى 8 عمال على الأقل فى المواسم.
محسن محمد، أحد العاملين بمصنع شعير، قال إنه يعمل فى المصنع منذ 8 سنوات، مشيراً إلى أن ساعات العمل تزداد فى فترة المواسم، ما تحتاج معه المصانع إلى عمالة مؤقتة إضافية، مع زيادة عدد ساعات العمل.
وعن المشكلات التى تواجههم، قال إن أكبر مشكلة هى انقطاع الكهرباء والمياه بشكل متكرر فى المواسم السابقة، ما اضطر أصحاب المصنع إلى الاستعانة بمولدات كهرباء، لضمان تشغيل التكييف والمراوح طوال الوقت.
وأوضح مندوه شعير أنه قبل موسم شم النسيم أو عيد الفطر يجهز المصانع بشراء أطنان من الملح الخشن المستخدم فى الصناعة، ويقوم بتجديد براميل الخشب وأدوات الصناعة، حتى يضمن أفضل جودة للمنتج.
والفسيخ يُعد وجبة أساسية لدى أهل نبروه، يحرصون على تناولها مرة أسبوعيًا على الأقل، حيث يقول: «إحنا الغريب عندنا ضيف، والضيف بنكرمه بأكلة فسيخ لأنه عندنا أهم من اللحمة، وده سبب استمرار تصنيعه طول السنة وليس فترات المواسم فقط».
أسعار الفسيخ ترتبط بأسعار السمك، باعتباره المكون الرئيسى للصناعة، وحسب جولة لـ«المصرى اليوم» بين محال نبروه، فإن الأسعار هذا العام تبدأ من 30 جنيهًا حتى 80 جنيهًا.