p { margin-bottom: 0.08in; }
ربما كان أحد أكثر مشاهد السباق الانتخابي في مصر، وقبل أن تعقد الانتخابات البرلمانية في 28 نوفمبر 2010، تنافسية هو ذلك المرتبط بالتنافس بين عدد كبير من أعضاء الحزب الوطني على ترشيحات الحزب لمقاعد مجلس الشعب. فوفقا للأرقام التي أعلنتها أمانة التنظيم تقدم ما يقرب من 3000 عضو بأوراقهم للحصول على ترشيح الحزب لمقاعد مجلس الشعب المتاحة للرجال والنساء وعددها 444، أي أن المعدل التنافسي هو 6 من أعضاء الوطني للمقعد الواحد. بل أن التنافس على المقاعد المخصصة للنساء وفقا لقانون الكوتا النسائية وعددها 64 مقعد اتسم بتنافسية أشد، فتقدم ما يقرب من 1000 سيدة بأوراق الترشح أي بمعدل 15 راغبة في الترشح لكل مقعد. هذه التنافسية رتبت تأجيل الحزب الوطني أكثر من مرة للحد الزمني النهائي لحسم مسألة الترشح الداخلي ولإعلان قائمة مرشحيه، وهو ما دلل على الصعوبات التي يواجهها الحزب في هذا الصدد. كذلك دفعت الأمانة العامة للحزب لتأجيل موعد المؤتمر السنوي من 8-10 نوفمبر إلى موعد لاحق على الانتخابات البرلمانية في 25-26 ديسمبر 2010، وكان المتوقع أن يوظف الحزب المؤتمر السنوي للإعلان عن برنامجه الانتخابي والدعاية لمرشحيه. والمؤكد أن قيادات الحزب أرادت بتأجيل المؤتمر من جهة، وطبقا لتصريحات البعض منهم، تركيز عمل أمانات الحزب في المستويات المختلفة على حسم مسألة الترشح الداخلي، ومن جهة أخرى احتواء الغضب المتوقع للمستبعدين من الترشح بعيدا عن أعين وسائل الإعلام التي اعتادت الاهتمام بالمؤتمرات السنوية للحزب وبمعزل عن الرأي العام كي لا يساء لصورة الحزب من جراء الخلافات والصراعات الداخلية بين أعضائه.
يصبح السؤال إذا هو لماذا يقبل مثل هذا العدد الكبير من أعضاء الحزب الوطني على الترشح، خاصة إن كان الحزب لا شعبية له كما يذهب الكثيرون في مصر؟ وما هي تداعيات التنافس بين الأعضاء والصعوبة المرتبطة بإدارته على الحزب وعلى دور كتلته البرلمانية في مجلس الشعب القادم؟ وهل سينجح الحزب الوطني في التخلص من ظاهرة المرشحين المستقلين على مبادئ الحزب، وهي تكررت في انتخابات عام 2000 وعام 2005 وأفضت إلى ترشح المئات من أعضاء الحزب الذين لم تشملهم ترشيحات الحزب كمستقلين وفوزهم في العديد من الدوائر الانتخابية ضد المرشحين المعتمدين من الحزب؟ وإن تكررت ظاهرة مستقلي الحزب الوطني في 2010، فما هي أسباب فشل الحزب في فرض قواعد الانضباط والصرامة على أعضائه؟
ففي ما خص إقبال أعضاء الحزب الوطني على الترشح، ثمة مجموعة من الدوافع الفردية والسياسية والتنظيمية ينبغي الإشارة إليها هنا. على الصعيد الفردي، تقدم النيابة البرلمانية فرصا حقيقية للترقي على سلم المكانة المجتمعية وللتواصل المنظم مع قطاعات اقتصادية واجتماعية مؤثرة وتوظيفها في سبيل الترقي المهني أو العمل الخاص، بل أن مثل هذه الفرص تتسع مساحاتها بالقطع في حال الانتماء للحزب الوطني الحاكم بتداخله مع أجهزة الدولة وقربه من الرئاسة مقارنة بالانتماء لأحزاب وحركات المعارضة. أما الدوافع السياسية فترتبط بالقدرة التي يكتسبها النائب البرلماني على تقديم الخدمات التنموية والاقتصادية والاجتماعية لأهالي دائرته الانتخابية وعلى التأثير كمشرع في وجهة ومحتوى السياسات العامة على المستويين الوطني والمحلي، وهي القدرة التي تزيد أيضا وبكل تأكيد في حال الانتماء للحزب الحاكم.
على صعيد التنظيم الداخلي للحزب الوطني وبعد انفتاحه الواضح خلال الأعوام الماضية على قطاعات عمرية ومهنية لم تكن تقليديا ممثلة بقوة داخله وضمه للعديد من الأعضاء الجدد على النحو الذي بلغ معه عدد أعضاء الحزب العاملين ما يقرب من 2.5 مليون، تحضر اليوم بداخل الحزب بيئة تنافسية تحفز الكثيرين على خوض سباق الترشح الداخلي والتعبير عن مصالح ورؤى القطاعات المنتمية إليها. فبعض المتنافسين اليوم يتميز بانتمائه أو قربه من نخبة رجال الأعمال والبعض الآخر من مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، في حين يرغب آخرون من المنتمين للعصبيات العائلية القوية في المناطق الريفية أو من المهنيين الشباب ومتوسطي العمر في الترشح والفوز بالنيابة البرلمانية.
تنظيميا أيضا، وفي شأن ذي علاقة ارتباط وثيقة بعمل قيادات الحزب الوطني خلال الأعوام الماضية على تحويله من مجرد حزب الرئيس الحاكم وشبكة للزبائنية السياسية ولتوزيع الريع (مادي ومعنوي) على أعضائه إلى كيان يقترب في بنيته التنظيمية وآليات عمله من الأحزاب السياسية الفاعلة في بيئات تنافسية، تعقدت كثيرا عملية اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية. فعملية الاختيار هذه تدار اليوم في ثلاثة مراحل؛ مرحلة المجمعات الانتخابية وبها يصوت أعضاء الحزب العاملين للمرشحين في انتخابات تمهيدية، مرحلة ثانية ندر أن يوجد نظير لها لدى الأحزاب السياسية التي تعقد انتخابات تمهيدية للمرشحين يجمع بها في ما خص هؤلاء بين نتائج الانتخابات التمهيدية ونتائج استطلاعات الرأي العام التي يجريها الحزب، مرحلة ثالثة وبها ترفع لقيادة الحزب التوصيات بأسماء المرشحين لاتخاذ القرار النهائي. نحن إذا أمام عملية معقدة تنظيميا وذات مراحل متتابعة تبدو للوهلة الأولى، على الأقل لأعضاء الحزب، حديثة وشفافة ومن ثم محفزة على الترشح والتنافس.
بيد أن مثل هذا المشهد التنافسي بداخل الحزب الوطني، حين التدقيق به، يعكس شكلا حديثا ومظهرا شفافا لا يستتبعهما بالضرورة مضمونا حداثيا أو جوهرا شفافا. فقيادة الحزب تتخذ في نهاية المطاف القرار بشأن هوية المرشحين ولا تلزمها بالكامل نتائج الانتخابات التمهيدية أو حصيلة استطلاعات الرأي إلى الحد الذي يصبح معه مشروعا التساؤل حول مدى الاختلاف الجوهري بين عملية الاختيار الحالية والكيفية التي اعتادت بها قيادات الحزب في الثمانينيات والتسعينيات تحديد مرشحيه. واليوم كما بالأمس يعمل الوطني في ترشيحاته على ضمان تمثيل المجموعات والقطاعات ومن ثم المصالح المؤثرة بداخله، نخبة الأعمال ومؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية والعصبيات العائلية والمهنيين.
لذا، وعلى الرغم من تطوره التنظيمي، تظل القدرة الفعلية للوطني على الحد من ظاهرة "المستقلين على مبادئ الحزب" والتي تكررت في انتخابات 2000 و2005 - وبكليهما حقق هؤلاء نجاحا بينا وأجبروا الحزب على إعادتهم إلى صفوفه لضمان أغلبية الثلثين بمجلس الشعب - موضع شك بالغ. ففي انتخابات 2000 نجح 145 من مرشحي الوطني المعتمدين و166 من مستقليه، في مقابل 170 و218 للمجموعتين على التوالي في انتخابات 2005. نعم تشدد اليوم قيادات الوطني على عزمهم عدم السماح للمستبعدين من الترشح الحزبي بالمشاركة في الانتخابات، تارة بمطالبتهم بالتنازل عن حق الترشح كمستقلين وتارة بالتلميح إلى إمكانية تعويق تسجيلهم كمرشحين، إلا أن ترجمة ذلك في الممارسة الواقعية ومع تنافس ما يقرب من 4000 عضو على الترشح الحزبي تبدو بمثابة المهمة المستحيلة.
وواقع الأمر أن ظاهرة المستقلين إن استمرت سيكون لها تداعيات خطيرة على الحزب الوطني. فهي ستشير، من جهة، إلى إخفاق قيادة الحزب وأماناته في فرض الالتزام والانضباط التنظيمي على أعضائه. أن يترك العضو الحزب حين استبعاده من الترشح وأن يترشح كمستقل ثم يعاد إلى الحزب حين نجاحه في الانتخابات وبمعزل عن تهديد ووعيد القيادة لهم قبل الانتخابات، لهو دليل قاطع على غياب الانضباط الحزبي وتهافت تأثير الإجراءات التنظيمية التي استحدثت خلال الأعوام الماضية. من جهة ثانية، يمكن أن يستنتج من نجاح انتخابي واسع النطاق للمستقلين في مقابل ضعف أداء المرشحين المعتمدين أن قيادة الوطني لا تعلم ما يكفي عن أو ربما لا تعير قدرات المرشحين التنافسية ومدى قابليتهم للانتخاب ذات الاهتمام الذي تعطيه لاعتبارات أخرى كالقرب أو البعد عن هذه المجموعة أو ذاك القطاع المؤثر بالحزب. من جهة ثالثة، تلحق ظاهرة المستقلين وما يرتبط بها من مواجهات لفظية وحركية عنيفة بينهم وبين مرشحي الوطني المعتمدين ومن توظيف مكثف للمال السياسي في الانتخابات ضررا معتبرا بصورة الوطني لدى الرأي العام المصري، وتعمق من الشكوك حول ما يجمع أعضائه بعيدا عن مصالحهم الفردية ورغبتهم في الإفادة من شبكة الزبائنية السياسية التي يضمنها الحزب بتداخله مع أجهزة الدولة. من جهة رابعة، قد يلحق المستقلون أيضا بعض الضرر بالأجندة البرلمانية للحزب الوطني على نحو مشابه لما حدث في مجلس شعب 2000-2005، وبه عوق المستقلون على سبيل المثال مشروع لأمانة السياسات لتغيير النظام الانتخابي من النظام الفردي المعمول به اليوم إلى نظام يستند بالأساس إلى القوائم الحزبية (بهدف تنشيط الأحزاب السياسية الرسمية وتضييق مساحة مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية) من خلال الإفصاح عن نية التصويت ضد المشروع إن أحيل إلى المجلس.
مازالت إذا، وإن غلبنا حسن النية والتفاؤل، مهمة تطوير الحزب الوطني باتجاه حزب حقيقي، يتجاوز في وجوده التداخل مع أجهزة الدولة وقربه من الرئاسة والزبائنية السياسية وبتقديم عدد كبير من أعضائه لمصالحهم الفردية على الانضباط الحزبي، في مراحلها الأولي في أفضل الأحوال. من هنا تأتي أهمية متابعة وتحليل أداء الوطني في الانتخابات البرلمانية 2010 والحصيلة النهائية للتنافس المتوقع بين مرشحيه، بشقيهما المعتمدين والمستقلين، كلحظة كاشفة لحقيقة ما يجري داخل الحزب الحاكم.
تعمل ميشيل دن كباحثة أولى في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بواشنطن ويعمل عمرو حمزاوي كمدير أبحاث وباحث أول في مركز كارنيجي للشرق الأوسط ببيروت.