ترددت نداءات المصالحة كثيرا فى الآونة الأخيرة. كان نداء المصالحة أولا يُتهم بالخيانة والعمالة للإخوان، أعداء الوطن والدين. ثم خفت هذه الاتهامات بعد كثرة نداءات المصالحة بحيث أصبحت صوتا مسموعا فى الحياة السياسية، تحملها جرائد الحكومة والمعارضة على حد سواء. وسرت الشائعات أنه بالرغم من رفض المصالحة مع الإخوان رسميا إلا أن قنوات الاتصال غير العلنية تقوم بمهمة التقريب بين وجهات النظر.
ليس بالضرورة مع الجيل القديم من الإخوان أو مع أجهزة الأمن فى الدولة، بل بين شباب الإخوان وجيل جديد من جهاز الدولة. وفى الجمهورية الثانية نجحت هذه القنوات غير العلنية فى مراجعة قيادات الجماعة الإسلامية لأنفسها وهى فى السجن وأصدرت ثمانى كتيبات باسم «المراجعات» وهى تنبذ العنف وتكفّر الدولة والعمل السياسى المباشر وتكتفى بالدعوة الدينية والعمل الخيرى. وانتظر أهل الخير أن يتم نفس الشىء بدلاً من الدماء المراقة من الطرفين، ولكن أهل المصالح رفضوا إلا التخوين والتكفير المتبادلين. فلهم مصلحة فى استمرار الصراع من أجل تأجيجه والحصول على المناصب الإعلامية والسياسية باعتبارهم سندة النظام. إذا ما حان الوقت وفرغت المناصب تبحث عن أفضل من يملؤها.
وفى يوم مشهود وعلى الصفحة الأولى من جريدة الدولة الأولى تم الإعلان عن المصالحة. ثم انقلب الفرح حزنا عندما عُرف أن المصالحة مع الرئيس المخلوع ونجليه وراء القضبان مع عديد من الوزراء السابقين للإسكان وموظفى الرئاسة وحلقة من الأصدقاء ورجال الأعمال ارتبطوا بالرئيس لتسهيل الصفقات مع ترك عمولات سخية حتى لو كانت الصفقة مع إسرائيل لمدها بالغاز بأقل من أسعار السوق ومصر فى أشد الحاجة له. وهذه المصالحة مع اللصوص هدفها استرداد عشرات المليارات من أموال مصر المهربة إلى الخارج فى البنوك الأجنبية والتى لا يمكن استردادها إلا بحكم قضائى لصالح الدولة.
وقد ثبت مؤخرا أن هذه «الشلة» قد ساهمت فى غسيل الأموال. وهى جريمة يُعاقب عليها القانون الدولى. والحجة استرداد أموال مصر من الخارج للمساهمة فى مشاريع التنمية الكبرى مثل الفرع الثانى لنهر النيل مخترقا الصحراء، وتشييد العاصمة الإدارية الجديدة بدلا من التسول شرقا وغربا، إقليميا ودوليا، عن تمويل لهذه المشاريع التى ستحول المنطقة كلها إلى سنغافورة جديدة أو هونج كونج. لم يهم قيم الشرف والأمانة. فهذه أخلاق مثالية لا قيمة لها فى بناء الدول. ولا تهم قوانين مثل «الكسب غير المشروع» و«من أين لك هذا». المهم المليارات واستردادها فى مقابل العفو عن لصوصها.
أما المصالحة مع الخصم السياسى مثل الإخوان فمازالت مرفوضة رسميا من الأجيال القديمة بدعوى العنف أو الإرهاب. والحقيقة هى صراع على السلطة، دفاعا عن السلطة الشرعية، ورفضا للانقلاب عليها من طرف أو دفاعهم عن الدولة المستقلة من الطرف الآخر. وتغلبت وجهة نظر الأمن على المصلحة السياسية التى تقتضى المصالحة. وعلت النداءات للمصالحة من عديد من المفكرين. ودخلوا فى جدل مع من يرفضها. وغاب شعار «مشاركة لا مغالبة» لصالح المغالبة. وأصبح الجيش سندًا لنظام رجال الأعمال بل النظام السابق الذى حكم البلاد أكثر من ثلاثة عقود.
تمت المصالحة مع الجميع إلا فريقا من المواطنين الذين لعبوا دورا سياسيا رئيسيا فى تاريخ مصر منذ الأربعينيات ونشأة الثورة المصرية فى يوليو 1952. ومهما قيل فى الدور الذى لعبوه فى ثورة يناير 2011 فإنهم فصيل وطنى لا يمكن الخصام معه إلى الأبد خاصة مع ما يُروى من شائعات عن اعتقالات وتعذيب واختفاء قسرى. فأيهما أولى بالمصالحة «اللص فى نهب المال العام أم المعارض السياسى؟ وأيهما أولى بالخصام، لصوص النظام السابق أم فصيل سياسى معارض؟ وهل الخصومة السياسية تبقى كذلك إلى الأبد مثل الحكم الأبدى «إلى الأبد»؟.
لقد قامت الثورات بعد نجاحها بالقبض على جميع رجال الحكم السابق بمن فيهم الرئيس أو الملك كما حدث فى الثورة الفرنسية لتجنب أى ثورة مضادة. وقد حدث نفس الشىء فى الثورة الروسية ضد القيصر ورجاله. وحدث نفس الشىء بعد ثورة 1952 فى محاكم الثورة والقبض على كل رجالات القصر والحكم السابقين. وقد يكون من عوامل تأرجح ثورة 2011 أنها لم تأخذ موقفا حاسما من أعدائها. فأعادوا تنظيم صفوفهم مع أعداء الثورة. ونجحوا فى تحويل الثورة إلى ثورة مضادة، والتى قويت حتى ابتلعت الثورة نفسها. وأصبح الجميع ينتظر هبّة شعبية أخرى كما حدث فى يناير 2011 بعيدا عن الإسلاميين والعسكريين، بعيدا عن قريش والجيش.
وأصبح النموذج بعد تموجات الثورة هو السرقة. تتغير الوزارات قبل أن تستقر ثم تقال أو تعدل لأن بعضا منهم اكتشف أنه لص. وهو النموذج القديم فى عهد الرئيس المخلوع. الوزارة مكان للتسويق، والعالم سوق. ويسند السوق من رجال الأعمال رجال الحكم. فتجمع السلطة والمال. لذلك تستحيل الثورة، فالجيش والشرطة بالمرصاد لأى تحركات جماهيرية بدعوى الحفاظ على الأمن. ولما كانت خيرات مصر واسعة فى صحرائها وأراضيها الزراعية، وثرواتها المعدنية، وبترولها وموقعها الجغرافى كان من السهل لأى وزير الإغراء بمد اليد فى نظام يقوم على هذا النموذج.
وقد بدأ منذ الانفتاح فى الجمهورية الثانية وترك اليد محدودة لرجال الأعمال. ورجال الأعمال أولا ثم رجال السلطة ثانيا. وماذا تعنى الثورة فى أحد تموجاتها بالنسبة للفقراء، وهم يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون غنى؟ الحديث عن العشوائيات وضرورة إعادة بنائها لأنها عار فى تاريخ مصر يقابله بناء فعلى لتجمعات حول القاهرة للمدن الجديدة التى عليها حراسة مثل المعسكرات. وبها كل ما يحتاجه، الاكتفاء الذاتى من خدمات وترفيهات، والسعر بالملايين. هى ثورة الأغنياء ضد الفقراء. وربما يثور الفقراء ضد الأغنياء فى أجيال قادمة.