x

وليد علاء الدين الميزان في مسألتي صنافير وتيران (1ـ5) وليد علاء الدين الإثنين 25-04-2016 21:45


صُدمت، حالي حال الكثير من المصريين بنبأ التنازل عن جزيرتي "تيران"، و"صنافير" للمملكة العربية السعودية، وانتابني شعور بـ"قلّة القيمة" مرجعه الأساسي الظروف والطريقة التي تم بها الأمر؛ وهو ما لا أظنني سوف أغفره مهما طال الزمن لحكومة مصر، التي ستظل تحمل مسؤولية هذا الشعور الذي انتاب الكثير من المصريين، نتيجة لانعدام الخبرة وتراجع حسّ المسؤولية وتدني مستويات العمل الاحترافي التي ابتلينا بها في منظومة العمل الحكومي المصرية في آخر خمسة عقود، بلغ ذروته في السنوات الأخيرة.

ومع ذلك فإنني أضع هذا الشعور بقلة القيمة وأسبابه جانبًا؛ فهو في رأيي حقيقة واضحة لا تستحق المزيد من الجدل، بل تحتاج إلى مراجعة عاجلة لثقافة وعلوم الإدارة، ونية مخططة لإعادة الاعتبار للكفاءة والخبرة والعلم في أسرع وقت ممكن، لأننا على وشك الانهيار الكامل في حفرة الفشل، وسمعة مصر بأكملها في هذا المنحى إن لم تكن انهارت فهي قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.

أضع هذا الشعور جانبًا لأنه جزء من مشهد "الهطل" الإداري وسياسة "الترقيع" التي تحكم ثقافة الحكومة المصرية، تتراجع خطورته أمام حزمة أعراض لأمراض مستوطنة في البيئة الثقافية المصرية تتكشف ملامحها رويدًا، وهو أمر جيد إن استثمرناه وشديد الخطورة إن تجاهلناه. بعض هذه الأعراض كشفت عنها طبيعة الجدل الدائر حول قضية الجزيرتين، وهي أعراض لأمراض تحتاج إلى كثير من المراجعة والتخطيط قصير المدى وطويل المدى لتحجيمها ثم القضاء عليها من أصولها.

"الشوفونية المصرية" أحد أبرز هذه الأمراض، التي تجلت أعراضها في قدر هائل من الكتابات لا تمتلك من مقومات الرأي سوى مزيج من الإحساس الوهمي المتضخم بالذات (وهو وهمي لأنه غير ممتلئ بوعي ومعرفة وليس لأن الذات لا تستحق الاعتزاز بها)، ومن النظرة الدونية للآخر: العربي عمومًا والخليجي تحديدًا؛ لأننا في المقابل نمتلك شعورًا بالدونية تجاه الآخر الغربي. وشعور بدائي بالوطنية أقرب إلى النعرة القبلية منه إلى الحس الوطني الراقي؛ فهل يمكن أن يبني أحد الكتّاب المحترمين رأيه في موضوع الجزيرتين على أساس: "ومين السعودية دي؟"، ويبني آخر رؤيته على أساس: "شوية البدو اللي كنا بنبعتلهم كسوة الكعبة!".

قد نقبل ذلك ـ بقدر من التفهم ـ من رجل الشارع العادي، ونسعى لتعديل وتصحيح دوافعه وتثقيف صورته الذهنية عن الذات وعن الآخر، ولكن كيف نقبله من أصحاب أقلام مهنتهم ومهمتهم الكتابة وتنوير العقول؟

أحد أبسط مقومات بناء رأي أن تمتلك معلومات من مصادر ذات خبرة وكفاءة في المجال الذي يتعلق به الرأي، وعندما لا تكون قادرًا ـ بضغط من العاطفة أو بفعل إحساس طاغٍ بالوطنية أو غيرها من المشاعرـ على استيعاب ما تقوله المعلومات، فعليك أن تتحفظ عليها مؤكدًا عدم قدرتك على استيعاب أن تكون المعلومات منافية لما تراه من منطق، أو أن تكون جافة لدرجة العصف بالعواطف والمشاعر إلى هذا الحد؟

إنما لا يحق لك ـ من باب المهنية والأمانة ـ أن تلوي رقاب تلك المعلومات لصالح ما تشعر به، أو تنفيها وكأنها لم تكن! هنا يتضح الفارق بين صاحب الرأي الذي يبذل جهدًا لتكوين رأيه، ومُتّبع الآراء الذي يبحث في آراء الآخرين عما يحقق شعوره ويعزز عاطفته.

على أصحاب الأقلام بذل جهد للخروج من الدائرة الأخيرة ليكونوا أكثر قربًا من الدائرة الأولى.

وجهد المقل أن يتفضل الكاتب بعرض وجهات النظر المختلفة باحترام لها جميعها، ثم ـ إذا أمكن له ـ فليضِف من رؤيته أو تحليله أو محاولته القراءة ما ينير أسباب اختياره أو ميله لأحد الآراء ومبررات رفضه البقية. وبذلك تتحقق المنفعة للجميع.

منذ أن أثيرت قضية الجزيرتين، قررت عدم الخوض في الأمر من دون قراءة؛ والقراءة عندي وسيلة "تكوين رأي" وليس "تعزيز رأي"، بمعنى أنني أدخل القضية من دون قناعة مسبقة، ثم أبني القناعة على مهل من خلال القراءة؛ لأن من يقرأ لتعزيز رأيه لا يتطور، بل يتحجّر، لأنه لن يقع بعينه ولا عقله سوى على ما يرضيه، أو يعزز عاطفته أو تحيزه أو تعصبه لما يريد.

وكما بدأت المقال فإن الأمر الوحيد الذي أستطيع أن أقطع فيه بثبات ـ حتى أنتهي من القراءة ـ هو أن طريقة تعامل الرئاسة والحكومة مع الأمر غبية وساذجة ومختلة ولا تليق بحكومة دولة عريقة تملك كفاءات بشرية عالمة وخبيرة.

ولكنني ما زلت أقرأ مُنحيًا جانبًا كل ما هو عاطفي ووطني إلى أن أقف على رأي علمي سليم يمكن الوثوق فيه، ثم أبدأ في النظر إلى الموقف كاملًا من خلاله مستدعيًا –ساعتها العاطفة والوطنية والانتماء في محاولة تحقيق أكبر مصلحة ومنفعة للوطن؛ من خلال الحقائق وليس عن طريق التعامي عن الحقائق.

حتى هذه اللحظة، لم أقل شيئًا عن مصرية أو عدم مصرية الجزيرتين، لأن الكثير من الأصدقاء والقراء الأفاضل تواصلوا معي عبر البريد طالبين رأيي، مستنكرين علي الصمت، وبعضهم رأى في صمتي جبنًا، وبعضهم رأى فيه خيانة، وبعضهم لمز وغمز عن موقفي أيام مرسي وموقفي هذه الأيام. وكلها أمور لا تصيبني سوى بالدهشة؛ فهل من الواجب علي أن أفتي وأدندن وسط الدندنات سواء بالرفض أو بالقبول في أمر لا علاقة له بالهوى أو الميل أو العاطفة، وما أنا بخبير مختص في أي فرع من فروع القضية: الجغرافيا، والتاريخ، والقوانين الدولية، وقوانين الملاحة، والاتفاقيات الدولية ... وغيرها؟ فإذا كان صاحب الرأي قارئًا عاديًّا غير مختص في أي فرع من هذه الفروع أو غيرها، فمن أين له بهذا اليقين المغلق ـ من دون فتحات تهوية ـ بأن الجزر مصرية أو سعودية؟ يقين مغلق إلى درجة يفسر معها عدم موافقتك له بالخيانة، وصمتك بالخوف وتأجيلك التصريح برأي بانتظارك رجحان كفة.. إلى هذا الحد وصل بنا العبث؟

أقول لكل قارئ راسلني منتظرًا رأيي، إن رأي ما زال: إن الطريقة التي أدارت بها الدولة الملف مهينة وتدل على عدم مهنية وسوء إدارة، وهي صفات منتقاة راعيت فيها أن تكون موضوعية، ولا أستطيع تجاوزها إلى مساحة الخيانة والعمالة من دون سند أو دليل.

وبغض النظر عن مصرية الجزيرتين أو سعوديتهما، فإنني أرى ـ بحكم اهتمامي بالدراسات الثقافية- في اللغط الدائر بشأنهما مبحثًا في غاية الأهمية، يحتاج إلى كتابات وكتابات نتدارس فيها معًا: كيف نستقبل آراء الناس وكيف نفحصها، وكيف نفكر بطريقة ناقدة ـ لا حاقدة، وكيف نبني آراءنا، وكيف نحترم عدم علمنا بأمر ما، وكيف نقول ـ من دون خجل- إننا لم نصنع رأينا في أمر ما بأنفسنا لأنه أكبر من علمنا، بل نحن اتبعنا فيه رأي فلان أو قول علان لأننا نثق فيه... كل هذه أمور تحتاج إلى وقت وجهد لكي تشيع بيننا، وسوف يبدو من يحترمها ـ إلى حين ربما يطول ـ غريبًا وعليه أن يتحمل الكثير من اللوم والتقريع.

تتلاعب كي لا تقول رأيك صراحة في أمر الجزيرتين، ماذا عن الجزيرتين؟

قرأت كثيرًا إلى حد الملل، العديد من المختصين المحايدين المشهود لهم بالكفاءة يرون أن الجزيرتين غير مصريتين.. يقابل هذا الرأي الكثير من الآراء التي لا تقل كفاءة عنهم يرون أنهما مصريتان، لهذا منطقه وحججه ولهذا منطقه وحججه، ولا أخفيكم ما زلت أقرأ.

ولكنني سوف أدخل إلى الأمر من نقطة أراها ذات أهمية قصوى أثارها عندي ذلك التضارب المذهل في الآراء المبنية على المعلومات ذاتها، وهو أمر لا مبرر له عندي سوى "اليقين المغلق" الذي يرى في الأشياء ما يريد فقط.

كثير من الآراء بناها أصحابها على أرضية من العواطف والمشاعر، أو على أرضية من المعلومات غير المكتملة التي يتم استكمالها بخطابات عاطفية غير ذات صلة إلا في منظومة الكاتب نفسه، ونموذجها الأول في رأيي مقالة الكاتب الصحفي الكبير أحمد النجار التي اشتهرت وتداولها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية منعها من النشر في الأهرام وهو رئيس مجلس إدارتها!.

تقابل هذه الكتابات قلة من الآراء حاول أصحابها ـ مدعومين بخلفية علمية ـ بذلَ جهد في بناء خريطة موضوعية من فسيفساء المعلومات التاريخية والجغرافية والسياسية والقانونية المتناثرة والمتضاربة أحيانًا، متخلصين ـ إلى حين ـ من كل المواجهات العاطفية، ونموذجها عندي دراسة الدكتور وائل إبراهيم الدسوقي التي نشرها قبل يومين على مدونته رؤى، اجتهد فيها في تقصي الآراء على اختلاف درجاتها بين الرفض والقبول.

كلا الكاتبين محترم عندي، ولا يليق بهما سوى التقدير والإجلال، ولكن ما طرحاه في الشكل والمضمون يصلح أنموذجًا للحالة التي أرى أنها تستحق الدراسة. واسمحوا لي أن أخصص لكل منهما مقالة في القريب لنتبادل النقاش بشأنهما، ربما استفدنا من هذه المعمعة التي نسأل الله أن يكون فرجَه فيها قريبًا.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية