هل تتخيل أي سلطة حاكمة في أي بلد غياب كامل لمؤسسات حقوق الإنسان، أو بما اصطلح عليه بمسمى
المجتمع المدني؟
- لابد وأن نوضح أن المجتمع المدني يعد شريكا أساسياً للسلطة في كافة البلدان الديمقراطية، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تتم صناعة قرار دونما الأخذ في الاعتبار لرؤية المجتمع المدني والحقوقي في بلد ما، فقد استقرت الأوضاع في كافة المجالات على اعتبار المجتمع المدني شريكا أساسياً في صناعة القرارات على كافة الأصعدة، وذلك بحسبه يؤمن للسلطة رؤية المجتمعات المحلية حيال سياسة معينة أو قرار محدد يخص المجتمع. وقد تطور وضع مؤسسات المجتمع المدني خلال ربع القرن الأخير بصورة موازية أو مقاربة لتطور الديمقراطيات أو الشراكات المحلية في صنع القرار من قبل السلطات الحاكمة، وفي مجتمعات موازية يتم استطلاع رأي مؤسسات المجتمع المدني حيال القضايا المجتمعية، قبل أن تقوم السلطة الحاكمة باتخاذ قرار ما بشأن ما يخص المجتمعات المحلية.
- ولا يغيب عن البال ما تقوم به المؤسسات الحقوقية من توعية للرأي العام حيال قضاياه وهمومه، وتنويره بحقوقه الدستورية والقانونية، وقد شاركت المؤسسات الحقوقية المصرية المجتمع «تنويراً- توعية – تحفيزاً» تجاه حقوقه وتعريفه بمفردات لم يكن ليعلمها دونما تواجد لهذه المؤسسات، بكتاباتها المختلفة والمتباينة منذ ما يزيد على الربع قرن، سواء عن طريق الإصدارات القانونية أو التقارير ذات القضية الواحدة، أو سلاسل المعارف بالحقوق المبسطة، وأيضا بتوفير الدفاع القضائي أو المساعدة القانونية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
- ولكن في الدول ذات الطابع غير الديمقراطي، أو تلك التي تخشى من الرقابة الشعبية أو المشاركة الشعبية عن طريق معرفة الشعوب بحقوقها، يتم تغييب الحالة الحقوقية، أو تغريبها «بمعنى الغربة، والغرب» حتى تستسهل السلطات الفردية مسألة تخوينها عن الشان الوطني، واتهامها بالتالي بالعمالة والتمويل، وانعدام المنتمى أو الوطنية. مع أن هذه السلطات ذاتها تخضع لرقابة المؤسسات الحقوقية ذات الطابع الدولي، وتتقدم بتقارير دورية لها، لتوضح لها حالة حقوق الإنسان في ذلك القطر. ولكن من أجل أن تنعم هذه السلطات بعدم وجود معارضة حقيقية على الأقل بين تقاريرها الرسمية، والتقارير التي تتقدم بها المؤسسات الحقوقية الخاصة، فيسهل اتهام الأخيرة بالعمالة والخيانة، مع العلم بأن التقارير المقدمة من الفريقين «الدولة والمؤسسات الحقوقية» تقدم لذات الجهة.
وللغرابة من الزاوية القانونية تجد الدولة نفسها قد انضمت إلى الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وصادقت عليها، ونشرتها في جريدته الرسمية، وهذه المواثيق تضمن، بل وتؤمن الحق في حرية التنظيم «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية».
فلأي وضع تؤسس الحكومات الكارهة لوجود مؤسسات حقوقية بداخلها؟ لا أجد إجابة حقيقية سوى الرغبة في وجود حالة الصوت الواحد، والمفرد فقط.
إن ما يحدث الآن للمؤسسات الحقوقية في مصر أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، فلو حاولنا النظر إليه على أساس تصفية المؤسسات التي تعمل خارج نطاق قانون الجمعيات «ذلك الذي يؤسس لفرض رقابة حكومية على عمل المؤسسة»، نجد أن الأمر ليس ذلك، فقد تم استدعاء القائمين على مؤسسة نظرة المسجلة وفقا لقانون الجمعيات الأهلية المعيب، ومن ثم فهي تمارس نشاطها من خلال عباءة ذلك القانون. وإذا ما حاولنا النظر من خلال زاوية أو رؤية التمويل الأجنبي «وإن كنت أشك في ذلك»، لكون العديد من المؤسسات الحكومية ذاتها تتلقى دعما ماليا خارجيا، إضافة إلى كون الجمعيات العاملة تحت مظلة قانون الجمعيات تتلقى هي الأخرى ذات التمويل.
إذن فالأمر بعيد عن كل هذا، ويبدو أن حقيقة الموضوع تكمن في إضعاف قوة المؤسسات العاملة بشكل مجتمعي حقيقي، والفاعلة داخل المجتمعات المحلية، وذات التأثير في صناعة القرارات الجماهيرية، ولا يخلو من محاولة لإبعاد بعض الشخصيات ذات الثقل والتأثير عن المشهد العام، ويزيد بقوة هذا الطرح في كون هذه المؤسسات وهؤلاء الأشخاص كان لهم أدوار فاعلة في المشهد الينايري،ومن ثم باتت هذه المؤسسات أو الشخصيات ذات ثقل مجتمعي داخلي، علاوة على مصداقيتها في المحافل الدولية ذات الصلة.
فهل سيحقق غياب المؤسسات التي تسعى السلطة لإخراجها من المشهد العام حالة من الاستقرار المجتمعي؟ أو حتى الاستقرار العام من وجهة نظر السلطة؟
أظن أن أي إجابة بخلاف النفي ستكون ذات صلة بالحقيقة النظرية أو الواقعية، فهل يعقل أن يكون في الوقت الذي تتقرب فيه السلطات في معظم المجتمعات أو تتقارب بشكل أو بآخر مع رؤى مؤسساتها الحقوقية، تقوم الحكومة المصرية بمحاولة لإعدام مؤسساتها الحقوقية، التي يشهد لها المجتمع المحلي والدولي بمصداقيتها، سننتظر للأيام المقبلات والتي سوف تضع أمام أعين الجميع الإجابة الحقيقية لهذه التساؤلات.