حين تعنت الإسرائيليون في مفاوضات طابا، اجتمع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ومعه كل من وزير الدفاع المشير أبوغزالة ورئيسا جهازي المخابرات العامة والحربية ورئيس مجلس الشعب ووزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور بطرس غالي والدكتور أسامة الباز وزكريا عزمي والدكتور نبيل العربي رئيس الوفد المصري المفاوض حينئذ.
انتهى الاجتماع وقد اتفق الحاضرون على أن يدلي «رئيس الجمهورية» بتصريحات (شديدة العنف) تطالب إسرائيل بالانسجاب الفوري وأن مصر قد تلجأ إلى تدمير جميع المنشآت في طابا وحرقها.
غير أن الحاضرين اتفقوا على تغيير كلمة «حرق» كي لا تسيء إسرائيل استخدامها، وأدلى الرئيس –حينها- بهذه التصريحات، وفهمتها إسرائيل جيدا، ما أدى إلى سير مفاوضات التسليم على نحو أكثر سلاسة وقد أدركت تل أبيب مغزى تصريح الرئيس المصري.
وثق الدكتور نبيل العربي هذه الواقعة في مذكراته التي تستدعي منا اليوم زيارة جديدة لمراجعة (معنى الدولة المصرية) في لحظات الشتات والاهتزاز التي نعايشها منذ اندلاع أزمة الجزيرتين.
المثير للانتباه والمقارنة في هذه الواقعة، أن «رئيس» مصر (الشخص الذي مهمته رئاسة مصر) اجتمع بكل الجهات المعنية وبذوي التخصص ليشاورهم في خطوات التصعيد السياسي، بينما يدلو كل منهم بدلوه في نطاق تخصصه، إلى الحد الذي دفع «الرئيس» لتعديل نص التصريحات المتفق عليها، كي لا يتسلل العدو بين ثغراتها.
الفكرة هنا في «الدولة» التي تدار بمنطق دولة، لكل جهة منها نصيب في تقدير الموقف، ولكل كيان رأيٌ مستقلٌ له وزنه وحيثيته، ولكل مسؤول أو ذي اختصاص قيمته ومساهمته، وتتعلق كفاءة «الرئيس» في مفاعلة التقديرات سويًا، لتتفق الدولة على قرارها ومنهجها النهائي في تناغم واضح بين جهات العمل والاختصاص.
هذا الاجتماع كان امتدادًا لمنهجية العمل المصري التي أدارت المفاوضات باقتدار يدعو للفخر.
فاختيار المفاوضين تم على أسس علمية لا سياسية ضيقة، لدرجة إيلاء الأمر في بدايته للدكتور وحيد رأفت وهو نائب رئيس حزب الوفد في ذلك الوقت، دون البحث عن قانوني تابع باهت من أنصار مبارك. ثم في اختيار إسماعيل شيرين وزير الحربية الأسبق في عهد الملك فاروق واحدًا من الشهود المصريين أمام هيئة التحكيم الدولية، دون تعنت أبله يقصي الرجل عن شهادته لوطنه.
ثم تفاوت الاختيار بين المفاوضين الذين تبدلوا وساهموا بأدوار مختلفة –على مدار سنين- استنادًا إلى المدارس الفقهية القانونية التي ينتمون إليها وعلى أساس قناعاتهم القانونية ودورها في تسيير المفاوضات وتبني الحجج المصرية وقدرة مدارسهم على دحض المزاعم الصهيونية وبالمدارس الفقهية التي ستستخدمها إسرائيل منهجًا للدفاع عن نفسها.
ثم على أسس تتعلق بالسمات الشخصية للمفاوضين وقدرتها على مجابهة شخصية المفاوض الإسرائيلي، ثم بتوزيع المهام والأدوار بين الجميع، بدءًا من مهام التفاوض والاستدلال العلمي وصولًا لضرورات الاشتباك اللفظي إذا لزم الأمر!
كان لكل عضو مهمته ودوره المحدد بدقة.
وهنا يتجلى معنى الدولة في أقوى صوره وأجلى دلالاته.
والمقارنة هنا ضرورية بالمنهج الذي اتخذه السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، حين قرر الاستعانة بأرشيف المكاتبات والوثائق السرية في كل من وزارتي الخارجية والدفاع وجهاز المخابرات العامة، ليبحث على مدار شهور أحقية المملكة السعودية في جزيرتي تيران وصنافير.
الفارق ضخم بين دولة أو فلنقل وقت، كان القائمون عليه يدركون أنهم يفاوضون عن وطن، وأن أبناء الوطن جميعا شركاء في الذود عنه، بخبراتهم العلمية وشهاداتهم وتقديراتهم وقدرتهم على تدبيج وثائق الدفاع عن مصائرهم ومصائر أبنائهم.
وبين دولة اختارت أن تثق في (الأرشيف السري) وفي (الورق الأصم) دون عقول أبنائها، ودون مراجعة ما تغير من حقائق الأوضاع وما يقوله القانون الدولي في احتمالاته الكثيرة لتقييم الحالة الواحدة وللجوانب المختلفة التي تعتري تقدير فقهائه إزاء حادثة بعينها.
ثم هي دولة اختارت أن تدير أمرًا من صميم مصير الأمة، كما لو كان اختصاصًا حصريا من اختصاصاتها أو شأنًا من شؤون القائمين على الحكم لا شأنًا من شؤون الشعب كله. فبدت الإدارة وكأنها عصابة تحكم وطنًا لا نظام حكم يرى أهليته وجدارته وقوته من قوة شعبه بأكمله، بكل ما في هذا الشعب من ألمعية وانحدار وعقلانية وتسرع واتزان وتهور.
والأزمة أن نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي كان قاصر الرؤية إلى حد مرعب في مسألة شديدة الحساسية كهذه، فتوالت اتهامات التخوين والخضوع للرياض وملياراتها.
وهي اتهاماتٌ يستأهلها السيد السيسي من باب العقاب والوخز الضروري، حتى لو جافت هذه الاتهاما حقيقة الأمور وجوهر الرجل كعسكري نزيه اليد موفور الوطنية من أبناء العسكرية المصرية.
لا أظنه أبدًا يفرط في أرض، ومن بعد هذه الأزمة في رأيي لن يفرط فيها أبدًا، إذ إنها حٌملت بدلالات رمزية ربما- لو مدت على استقامتها- تطيح به شخصيًا من سدة الحكم.
أثق أن عبدالفتاح السيسي رجل شريف ووطني، لكني لا أثق فيما يعتمل في عقله ونفسه، لا أثق في طريقة اتخاذه قراراته ولا طريقة إدارته إياها في كثير من الأمور.
والشرف والوطنية هنا يتنحيان جانبًا في مثل هذه المسائل.
فالطريق لجهنم محفوف بالنوايا الحسنة، فمن سيترك الرجل ليأخذنا إلى جهنم التي يلفحنا هجيرها وتدنو منها المسافات.
مبارك المدان بسرقة المال العام، والمستقر في ضمير شعبه أنه هو الذي نكسه ونكس مصيره، أصبح محل استحسان وأضحت أيامه محل استشهاد.. أي خزي هذا سيادة المشير كي تدرك؟
أمور الأوطان المفصلية، لا تدار في الغرف المغلقة فحسب، ليست اختصاصا لفئة حاكمة يواتيها التوفيق تارة فتكون على قدر المسؤولية من كل الجوانب، ويجافيها التوفيق تارة أخرى.
الشعب بثرواته البشرية والإنسانية هو الأقدر في الدفاع عن أرضه، أو ما يظنه أرضه، هو الذي سيسوق الأسباب ويرد الشبهات ويبحث في الوثائق ويقارن الخرائط.
فعجبًا لرجل يترك كل هذا لصالح (الأرشيف)!
أعرف يقينًا- لأسباب معقدة- أنك لن تسلم الجزيرتين، لكن بعدما خسرت ماذا؟
بعدما شك شعبك –قطاع منه على الأقل- في شرفك العسكري والوطني! أترى كان الأمر يستأهل؟
قيل (من وضع نفسه مواضع الشبهات فلا يلومن إلا نفسه)
استغفر لذنبك.