x

فاطمة ناعوت أولاد الوزّة فاطمة ناعوت الأحد 17-04-2016 21:21


أثناء تجوالنا، أصدقائى وأنا، وجدنا إوزةً كندية بريّة واقفة فى مرمى الخطر غير عابئة بأقدام المارة وإطارات السيارات التى تريد أن تصطفّ فى جراج مفتوح أمام أحد المولات الكبرى فى تورونتو الكندية. الإوزة تتلفّت يمينًا ويسارًا فى قلق وتوجُّس، كأنما تحمل على مِنقارها رسالة تقول: «خفّفوا الخطوَ، أيها البشرُ، وامشوا الهوينا».

أخذنا الظنُّ أن تلك الإوزّة قد تخلّفت عن سرب رفاقها أثناء رحلة هجرة الطيور السنوية هربًا من صقيع كندا وثلوجها، نحو دفء الوديان فى مناطقَ بعيدةٍ من العالم. وقفنا لا ندرى كيف نساعدُ تلك الإوزة التائهة، وبدأ شىءٌ فى داخلى يبكى لشعورى بالعجز كونى غريبة عن البلاد؛ ولا أدرى بمن علىَّ الاتصال. طمأننى أصدقائى الكنديون أن أجهزة حماية البيئة سرعان ما ستتحرك، ولا داعى للقلق، فهى بلاد تحترم الطير والحيوان، مثلما تحترم بنى الإنسان. دخلنا المول، والقلقُ لا يبرحنى لولا ثقتى فى ربٍّ لا ينسى نبتةً فى حضن صخرة، فيرسلُ لها القَطرَ لتحيا، وثقتى فى بلاد تعرف قيمة الروح، وإن كانت لإوزة، فى مقابل بلادنا السعيدة التى نسيت، فى خضمّ مشاكلها وعثراتِها، أن تحترم الإنسان والحيوان. لكن عينى ظلّت تطاردُ الإوزة من فوق كتفى وأنا أبرحها وأمضى نحو البعيد. وحيّرنى اللغزُ الغامض: لماذا لا تتحرك الإوزة عن مكانها، وتصرّ على الوقوف فى نهر الطريق، ولا تتنحّى مكانًا آمنًا جوار حائط أو تحت ظلّ شجرة، بينما نُدَفُ الثلج القارس تنهالُ فوق ريشها المبتلّ!!

خرجنا من المول، وانفضّ اللغزُ المُحيّر وفهمنا القصة كاملة. على بعد خطوات من الإوزة، التى تبيّن أنها ذكرُ إوز، كانت هناك إوزّة ترقد على بيضاتها فى جزيرة عُشبية تغطيها الثلوج وسط بارك السيارات. الإوزة الأمُّ فاجأها المخاضُ أثناء رحلة الهجرة، فحطّت فى تلك البقعة ووضعت بيضها، ثم رقدت عليه لكى تدفئه من قساوة الجليد. وكان الزوجُ فارسًا نبيلاً كما ينبغى لـ«رجل» يحبُّ أنثاه. كتبتُ: «رجل» لأن كلمة: «ذكر» لا توافق المعنى هنا، وإن كنتُ أتكلم عن فصيل الإوز. فالرجولة معنى واختيار وقيمة، والذكورة صفةٌ اعتباطية محضُ مصادفة بيولوجية لا تحمل معنى ولا قيمة ولا اختيارًا.

ماذا فعلت الدولة الكندية مع أسرة الإوزات المهاجرة المكوّنة من أمٍّ ترقد على بيضاتها، وأبٍ يقف على مرمى خطوات يشخص بعينيه فى عيون المارة والسابلة ليحذّرهم من الاقتراب من زوجته وصغاره الذين بعد ما خرجوا للنور من بيضاتهم؟ سارعت الشرطة الكندية بوضع شريط أمان Caution tape أصفر اللون يحيط بالبقعة التى ترقد عليها الإوزة فوق بيضاتها. وهنا أصبحت تلك البقعة محميةً طبيعية بأمر الدولة الكندية، لا يحقُّ لإنسان الاقتراب منها وإزعاج الأم الراقدة على مستقبل أطفالها القادمين للحياة بعد برهة.

أفكّرُ الآن فى الصغار الذين يتشكّلون الآن داخل بيضات الإوزة فى أمان تامّ. صغارٌ محظوظون دون شكّ؛ لأن الطبيعة اختارت لهم أن ينشأوا فى بلاد تُقدّر قيمتهم. أفكّر كذلك فى مصير أولاد الوزّة لو قُدّر لهم أن ينشأوا داخل بيضات اختارت لها الطبيعةُ أرضًا عربية من أراضينا السعيدة. ماذا كانت ستفعل بلادنا، ومواطنونا أمام معجزة الخلق التى تتشكّل أمام عيوننا؟ أنتم تعرفون الإجابة. أكتبُ هذا المقال وأنا إحدى ضحايا الرحمة بالحيوان الذى لا يقدر أن يعبّر عن أوجاعه ومخاوفه من قسوة بنى البشر. أشفقتُ على تعذيب حيوان قبل نحره على مذابح أضاحينا، فما نالنى إلا حكم بالحبس سنواتٍ ثلاثًا، وغرامة مالية، وتشريد خارج وطنى الطيب. طوبى لكم يا أولاد الوزة.

Twitter: @FatimaNaoot

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية