من حق المسلم أن يترفَّع، أو يشعر بالتفوُّق والامتياز، وتعلو هامته، ويشعر بالفخر كيفما شاء، ولكن ليس من حقه أن يحتقر الآخر، ويُصغِّر من شأنه، ويحطَّ من قدره، وينكِّل به، ويقتله، ويحرق أرضه، ويقلع زرعه، ويسبِى نساءه، ويتخذهن جوارى له، ويستهين بشرفه، وهو سلوك غير مقبولٍ، بل غريب وشاذ، وينم عن شخصيةٍ ليست سويةً، لا تعرف دينها حق المعرفة، ولا تدرك النصوص والتعاليم التى تدعو إلى البر والتقوى والإنصاف والمساواة والعدل والمسامحة، وليس القهر، والعنت، والتسلُّط، والاستبداد، والتآمر، والإساءة، والحقد، والكراهية، والمعاملة الجافة القاسية، والتشنيع بهم، والطعن فى الذمم، والسخرية منهم.
ولعلنا لا ننسى ما قاله الخليفة الثانى عمر بن الخطاب فى قدرة غير المسلم من الموالى والأعاجم فى العمل المُتْقن والصالح والحسن: (...والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عملٍ، فهم أولى بمحمد منَّا يوم القيامة، فإن من قصر به عمله لا يسرع به نسبه)، وأن هؤلاء أقرب إلى الفوز بالآخرة بحكم تفوقهم، ومن ثم لا ينبغى النظر إليهم نظرات احتقار وازدراء، وأن المسلم غالب وهم مهزومون مغلوبون، وكان العرب فى حروبهم يستخدمون غيرهم من الأعاجم والموالى (الأتباع !) كمُشاةٍ، أى كوقودٍ للمعركة، من السهل اصطيادهم، والتضحية بهم، بينما العرب (الأسياد!) كانوا يقاتلون من فوق ظهور الخيل.
وللأسف لاتزال هذه النظرات سائرة وسائدة بين سواد الناس، وكثير من خاصتهم، إذ لابد من الوقوف مليًّا أمام مفهوم دار الكُفر، ودار الإيمان، بمعنى أن غير المسلم هو فى دار الكُفر أو دار الشرك، وينبغى معاملته فى هذه الحدود المرسومة له من قبل المتزمِّتين المتشدِّدين، حيث يرون غيرهم مفسدةً للدين والدنيا، كأننا فى زمن الدولة الأموية حيث أمر الحجاج بن يوسف الثقفى (40 - 95 هـ = 660 - 714 م) بنقش اسم كل قرية على يد واحدٍ من النبط ليفرِّقهم، ويشتِّت شملهم، حتى لا يصيروا جماعةً متماسكةً: (أنتم علوج وعجم، وقُراكم أولى بكم، ففرَّقهم وفضَّ جمعهم كيف أحب، وصيَّرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التى وجَّهه إليها).
وليتنا نعرف أن كثيرًا من الخلفاء، إنْ لم يكُن جميعهم، كانوا أبناء لجوارٍ ومحظيات، أصلهن أعجميات من الروم والترك، وذلك فى القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهذا أمر من المفترض أن يبتعد بنا عن العصبيَّة والقبليَّة، وفكرة الأفضلية للنسب أو الدين، لأن العار والخزى ليس فى درجة النسب، وإنما فى النظرة الدونية للآخر المختلف عنَّا دينًا ولغةً ونسبًا وثقافةً، فاللغة العربية ليست مُرادفة للإسلام، وهناك من لا يعرفُها، وهو أكثر فهمًا للدين وإيمانًا من كثيرين بيننا يشتغلون به.
ويمكن لى - مثلا - أن أعدِّد الكتب التى صدرت فى التاريخ العربى، ذاكرةً مثالب وعيوب العرب، وتُشهِّر بهم، ومنها كتاب الهيثم بن عدى (114 ـ 207هـ / 732 ـ 822م) «كتاب المثالب الكبير» و«كتاب المثالب الصغير»، والامتياز للنسب من أضعف المميزات لهذه الأجيال والأمم، وذلك لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذهابه كما يذكر ابن خلدون (1332 - 1406م) فى كتابه الأشهر «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر»، وعلى الرغم من أن الأعاجم والموالى قد دخلوا الإسلام، فلم تختلف نظرة العرب إليهم كثيرا، ويكفى أن أنقل من كتاب العقد الفريد لابن عبده ربه (246هـ-328هـ/860م-940م )، وكان من موالى بنى أمية: «لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى»، ومن كتاب الكامل للمُبرِّد (210 هـ - 285 هـ - 825 م - 899 م)، ذلك الكتاب الذى كنت أدرسه فى السنة الأولى للصحافة، دعاء لأحد النساك من بنى تميم: «اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالى عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك»، وفى النصين اللذين أوردتهما دليل واضح على كره العربى لغيره.
ولا أحد ينسى ما فعله الوزير رضوان بن ولخشى، الذى كان واليًا للغربية، ثم تولَّى وزارة التفويض سنة 531 هجرية – 1137 ميلادية فى عهد الحافظ لدين الله أبوالميمون عبدالمجيد بن الأمير محمد بن المستنصر بالله معد بن الظاهر على بن الحكم بن العزيز بن المعز، العبيدى الإسماعيلى المصرى، وكان رضوان بن ولخشى قد اتخذ لنفسه لقب الملك الأفضل، فكان بذلك أول وزيرٍ فاطمى يُلقَّب بالملك، كما أنه كان أول وزيرٍ يأمر بعدم استخدام الأقباط فى الدواوين الكبيرة، وألا يُعيَّنوا نظَّارًا أو مُشرفين، وحكم بالجزية عليهم وألاَّ يركبوا الخيل، وأن يشدّوا أوساطهم بالزنار، حيث أصدر سجلا أمر فيه بمنعهم من إرخاء الذوائب وركُوب البغلات، وألا يلبس أحدٌ منهم طيلسان، وألا يعبروا أمام المساجد رُكبانًا، وإذا اضطر أحدهم إلى الجواز نزل وقاد دابته، وأمر كذلك ألا تُسلَّم الجزية إلا على مصاطب وهم أسفلها، وقد ضيّق على الأقباط، وضاعف الجزية عليهم.
وإذا كانت الحال هكذا فى أوائل العقد الرابع من القرن السادس للهجرة، فهل تغيَّر وضع الأقباط فى مصر خُصُوصًا فى جنوبها؟ لا لم يتغيَّر كثيرًا، إذْ ما تزال أمور كهذه وغيرها حيَّةً فى أذهان الناس، ويتم ممارستها بشكلٍ يومى، كأننا نعيش فى زمن القبائل العربية، وقد عشتُ جانبًا منها أيام كنتُ طالبًا طوال أربع سنوات أدرُس الصحافة فى كلية الآداب بسوهاج جامعة أسيوط وقتذاك (جامعة سوهاج الآن)، حيث يراهم السلفيون والمتاجرون بالدين من أحفاد ابن تيمية - الذين يُفضِّلون الصحابة والتابعين وظاهر القرآن والحديث بلفظهما على جوهر متنهما - كفرةً ينبغى قتالهم، ونهب أموالهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وابن تيمية ذاك، هو من هاجم أبا حامد الغزالى، ومحيى الدين بن عربى، وعمر بن الفارض وابن سينا، وابن سبعين، وأقطاب الوقت من المتصوفة، والفلسفة اليونانية، والفرق الإسلامية كالمعتزلة والقدرية والخوارج والمرجئة والرافضة والأشعرية، بمعنى أنه لم يترك جماعةً أو فرقةً أو فقيها يعتقد فى غير ما يعتقد إلا هاجمه وكفَّرهُ.
وهؤلاء – الذين يضربهم الله بالذل والفُرقة والتشتُّت - بدلا عن أن ينشغلوا بالعلم، ويوظِّفوا الدين لخدمة الناس وتنويرهم وتبصيرهم، انشغلوا بالحديث حول الفتن والترغيب، والحلال والحرام، ولم يتعدُّوا ما يجعل العقول تعمل وتفقه، وكان أولى بهم أن يعرفوا الصحيح من السقيم فى الأحاديث؛ وزيف الاجتهاد الذى يؤدِّى إلى التناحر والخلاف بين سائر القوم من المسلمين؛ كى لا يضل الناس، وتنحرف اتجاهاتهم فى طرق الدنيا؛ بسبب الخلط فى الدين.
[email protected]