جعلت الشورى فى الإسلام لتوسيع دائرة الرأى وتبادل الأفكار والأطروحات، وبلغ من تعظيمه لها أن الله تعالى سمى سورة فى القرآن باسمها، وأنها- أى الشورى- واحدة من الصفات المهمة للمؤمنين، فقال جل وعلا: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون» (الشورى: ٣٨).. وغنى عن البيان أنه لا يمكن أن يدلى إنسان بدلوه فى قضية ما إلا إذا توافرت أجواء الحرية، أى إتاحة الفرصة للاختيار بين البدائل، فإذا لم تكن هناك بدائل، فلا حرية ولا شورى.. كما أن أجواء الحرية تمكن الإنسان من أن يقول رأيه دون خوف أو مساءلة أو محاسبة.. وليست الشورى عملا اختياريا للحاكم أو المسؤول، عمل بها أم لا، لكنها أصل من أصول الإسلام، وهى أيضا من أهم قواعد الديمقراطية.. قال بعض الفقهاء قديما إن الشورى معلمة، أى للحاكم أن يستطلع آراء من حوله، ثم هو الذى يختار الرأى الذى يراه مناسبا أو ملائما، بغض النظر عن الإجماع الذى حازه هذا الرأى أو ذاك.. وأرى- ويرى كثيرون غيرى- أن الشورى لابد أن تكون ملزمة للحاكم، بمعنى أن الرأى الذى يحوز الأغلبية وتجتمع حوله الآراء، هو ملزم للحاكم وعليه أن يعمل به..
إن القضايا تختلف حسب نوعيتها وماهيتها، بمعنى أن هناك قضايا عامة يشارك الجميع، على اختلاف ثقافاتهم، فى مناقشتها وتناولها، وهناك قضايا خاصة لا يصلح معها إلا أهل الاختصاص فى هذا العلم أو ذاك، وهكذا.. فى مشكلة جزيرتى «تيران» و«صنافير»، ودون الدخول فى تفاصيل الملكية والسيادة، من الواضح أن الشورى لم تأخذ حظها بالشكل الكافى.. ويبدو أن الرئيس لم يكن يتصور أن المشكلة سوف يكون لها هذا الصدى الواسع من ردود الأفعال.. وهذا فى حد ذاته مشكلة.. نعم، يعتمد الرجل على شعبيته الواسعة والثقة الكبيرة التى يتمتع بها لدى الشعب، لكن هناك من القضايا ما يحتاج إلى توطئة وتهيئة، وفى الوقت ذاته إلى شفافية ومصارحة، حتى يكون الشعب على بينة مما يجرى.. وفى تصورى، لو أن الرئيس تناول هذه القضية فى حوار أوسع مما كان، حيث تتنوع الأفكار والآراء، لما كانت ردود الأفعال على هذا النحو.. عموما، سوف يستمر الصخب بخصوص الجزيرتين فترة ما، تقصر أو تطول، حتى بعد خروج الرئيس وحديثه إلى الناس بالكيفية التى شاهدناها.. ومن المؤكد أن هناك من سيكون مقتنعا، ومن سيكون غير ذلك.. وهذا طبيعى وبديهى.. لقد كان هناك خطأ من البداية فى كيفية وطريقة التعامل مع المشكلة، وعلينا أن نتعلم حتى لا نقع فى أخطاء مرة أخرى.. ليس عيبا أن نخطئ، فكل بنى آدم خطاء، لكن العيب هو أن نظل مصرين على الخطأ، غير مستعدين للاعتراف به وتصويبه.. أعود فأقول: لابد أن تكون الشورى فى مثل هذه القضايا وغيرها هى وسيلتنا، وأن يكون المستشارون عددا معتبرا من أصحاب الرأى والفكر؛ فى الاستراتيجية، والقانون الدولى، والتاريخ الحديث، والأمن القومى، والمواثيق والمعاهدات، والاجتماع السياسى.. إلخ. وأن تجرى الشورى فى جو من الحرية والشفافية، ثم تعرض النتائج على مجلس النواب ليرى فيها رأيه، وإن كانت المسألة فى حاجة إلى استفتاء، فليكن، ولتأخذ وقتها ونصيبها، حتى نكون على بينة مما نحن مقدمون عليه.. إن الالتزام الكامل بما ينص عليه الدستور- فى هذه القضية وغيرها- هو السبيل الذى يجلب الثقة والتقدير والاحترام.. وعلى الحاكم ألا يغضب إذا طالبه الشعب بالشورى، وأن يتسع صدره لذلك، وانظر- رحمنى الله وإياك- إلى ما جاء فى الآية ١٥٩ من سورة آل عمران، كيف أنه سبحانه أسبغ على الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) رحمة منه جعلته قمة فى اللين والرحمة والرأفة بأصحابه، ولولا هذا لتفرقوا من حوله، وطالبه بالعفو عنهم إذا صدر منهم ما يغضبه وأن يدعو لهم بالمغفرة، وأمره أن يأخذ رأيهم فيما تجرى فيه المشاورة، وليكون ذلك سنة تستن بها الأمة من بعده، فقد روى عنه أنه قال: «أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتى، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا»، أخرجه البيهقى وابن عدى.. إن العمل بالشورى على نحو صحيح يقى المجتمع من الزلل ويعصمه من الوقوع فى الخطأ، فضلا عن أنه يمكنه من الوصول لأفضل الآراء وأكثرها ملاءمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد..