x

نهى عاطف جوزين حمام نهى عاطف الأربعاء 06-04-2016 21:25


كلما أوشكت الشمس على المغيب، صعد هذا الرجل إلى سطح منزله، يلوّح راية أو يطلق صفارات منتظمة، فيؤدي الحمام رقصة جماعية في السماء ابتهاجًا بحلول موعد العودة، وفي توالٍ منظم تجتمع أمام يد صاحبها.
فوق إحدى الأشجار التقى بعض الحمام ببعض اليمام، ورغم كونهم أبناء عم، نادرا ما يتم لقاؤهم، لأن اليمام يأبى أن يؤنس الإنسان ويفضل العيش على أغصان الأشجار أو في الكهوف أو أي مكان بعيد عن البشر، وإذا طالت يد الإنسان أحدهم لا يتكاثر اليمام حتى لا يأتي بمزيد من اليمام إلى حيث لا يحب.
تبادل أبناء العم التحية والسؤال «كيف حالكم؟»"، ردت إحدى الحمامات «في نعمة ونعيم، وأنتم؟»، أجابت يمامة «في حرية ورزق كريم». قالت الحمامة «نحن أيضا في رزق كريم، يأتينا صاحبنا الإنسان بأفضل القمح»، ابتسمت اليمامة قائلة «تقصدين رزق وفير، السجان لا يكرم محبوسيه». انزعج الحمام، وصاحت واحدة «مازال رأيكم كما هو، تعتبرون رعاية البشر لنا سجنا»، ردت يمامة في ثبات «الأخطر أن قبولكم لهذا السجن امتهان»، سألتها حمامة في استنكار «امتهان لأي شيء؟» أجابتها يمامة أخرى «لأجنحتكم التي خلقها الله لكم، إنكم تقبلون الخضوع والملكية للإنسان، مقابل أنه يطعمكم بالقمح الفاخر ويسكنكم عشا زاهي الألوان، بدلا من أن تضربوا هذه الأجنحة في الهواء، تطيرون وتجمعون طعامكم وتبنون أعشاشا حقيقية».
نظرت الحمامات إلى بعضها، وردت واحدة: «أنت لا تفهمين الوضع، ربما لأنكم تتجنبون البشر، نحن نطير ونرفرف يا عزيزتي، بكل حرية.. صدقيني»، ردت اليمامة «نعم، أعرف أنكم تطيرون، لكن أجنحتكم تتوقف إذا أعطاكم الإنسان إشارة الرجوع إليه، حريتكم تتوقف مع صافرة العودة للعش.. أنتم أحرار في الأوقات التي يأذن لكم فيها الإنسان أن تكونوا أحرارا»، وأضافت يمامة أخرى: «نحن نأوى إلى عش، بينما تعيشون أنتم في سجن متناسق الألوان، تتوقف أجنحتنا إذا عدتم إليه، تصيرون بلا أجنحة».
قالت حمامة في حنق «كفى تضخيما للأمور! الإنسان يحبنا ولذلك يرعانا.. تقتضي هذه الرعاية التزامات من الطرفين، هو لا يتأخر عن إمدادنا بالشراب والطعام والمأوى، ونحن لا نتأخر عن موعد رجوعنا إليه». قالت يمامة: «الإنسان يرعاكم ليأكلكم لحمًا شهيًّا»، ردت الحمامة: «كل الطيور تتعرض للأكل، يمكن أن يصطاد إنسان يمامة وتصير هي أيضا لحما شهيا». علّقت اليمامة: «محتمل أن تكون نهايتنا على مائدة أحد البشر، والمؤكد أن حياتنا سوف تنتهي بطريقة أو أخرى، لكن قبل ذلك ستكون حياة حرة لم نخضع فيها لقاتلنا المحتمل».
انصرف الحمام عائدًا إلى أقرانه في مكان غير بعيد عن العش الملون الذي يؤويه فيهم الرجل. أخبرت المجموعة الباقين بما دار في لقائهم مع اليمام، تعجب البعض، واستنكر الباقون، حمامة واحدة قالت: «هل نحن سعداء بوجودنا في العش الذي يملكه الإنسان؟» ساد الصمت فواصلت: «هل بقاؤنا مع البشر دافعه الوحيد تأمين احتياجنا للطعام والماء والمأوى؟»"، ردت واحدة: «نعم! أنت لا تدركين ما تكابده الطيور الأخرى في سبيل ذلك.. هل تحبين أن نكون كالعصافير مثلا؟ هل نقضي يومًا كاملًا في جمع عدة حبات؟». وقالت أخرى موجهة حديثها للحمامة نفسها: «أنت مازلت فرخًا صغيرًا لا تعرفين عن حيل الإنسان واختراعته لاصطياد الحمام، كانوا يرمون آباءنا بحصى صغير، ثم بالبارود.. أشياء مفزعة جدا، فقط وجودنا معهم يحمينا من كل ذلك».
في عصبية صاحت إحدى الحمامات «أنا لا أعرف دافع هذا التمرد على البشر! الإنسان الذي صنع لنا العش الملون يحنو علينا، ألا تذكرين أنه إذا أصيبت إحدانا مرّضها وداواها حتى تشفى؟». ردت الحمامة «أعلم ذلك، ولا أنكر أنه...». قطع الحديث صافرة الرجوع، فانصرف الحمام يؤدي رقصته الجماعية في السماء، ثم عاد إلى العش.
في اليوم التالي اكتشف الحمام غياب الحمامات الأربع اللاتي تحدثن في الليلة الفائتة، وشمّ راحة شوائهن وقت الظهيرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية