فى غُرفة يتسِع براحها للكثير من الأحباب، يجلس الشاب الأربعينّى وهو يُتابع سنوات عُمره تمر أمامه دونَ أنّ تصالحُه على الدنيا، يتابع ما يحدث فى الحياة من خلف ستار غُرفته، يشعُر بمجىء النهار عندّما يحتل ضوء الشمس أركان الحوائط الأربعة، فيما يصل إلى آذانه صوت لعب الأطفال يوميًا فى المدرسة المجاورة للدار، يعرف أنّ الحياة لا تزال تفتح يديها لأحد، لديه يقين أنّ الكون يدور فى فُلك من حولِه، بينما يبقى هو قابعًا فى مكانه: «أنا مش مُفتقد حاجة غير رحمة ربنا».
حسام أحمد، شابٌ أربعينى، قضى 5 سنوات من عُمره على الفراش داخل دار رعاية المُسنين رغم سنُه الصغيرة، يعهدُه الجميع بقدر من الرِضا والونَس الذى يُمكنك أن تشعر بهِ بمجرد لقائه رغم ما أصابه: «كُنت عايش فى دبى عشان لقمة العيش، اشتغلت فى هيئة الطرق والمواصلات، لكن حصلت لى حادثة على الطريق غيّرت حياتى»، تسببَ الحادث الأليم فى إعياء أطراف الشاب الذى سافرَ بعيدًا عن بلده بحثًا عن لقمة العيش، وبعد رحلة طويلة من العلاج، عادَ حسام إلى القاهرة مرةً أخرى، لكّى يعتنى به الأهل والأقارب، ولكنه لم يجِد سوى والده فى انتظاره.
«والدى كان موجود بيساعدنى، لكن بعد ما مات بقيت يتيم»، ورغم وجود أقرباء لـ«حُسام» فإنه يشعر باليُتم الحقيقى منذ وفاة والده الذى كان يُعيله ماديًا ومعنويًا، فقرر حسام اللجوء إلى دار الرعاية التى تتكفلّ بحالتُه.
«كُنت محتاج ألاقى حد يشيلنى، حياتى شريط مكرر، مفيش جديد»، بهذه الجُملة يصِف «حسام» سيناريو حياتُه الحالى، يسير نهاره يوميًا وفق خطة ثابتة لا تتغير إلا فى الطوارئ، يستيقظ مُبكرًا لصلاة الفجر، يتعرّف على الضوء الذى يدخُل غرفته كإعلان لبداية نهار يوم جديد فى حياته، ثُم يُساعده القائمون على الدار فى أنّ يطُل على الحياة من شُرفة الغرفة، يجلّس على كُرسى ثم يتم نقله إلى الشرفة المُطلة على فناء المدرسة المجاورة للدار، ينظُر إلى الأطفال وهُم يلعبون، ويضحكون، وأحيانًا يصرخون، فيتأكد «حسام» أنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
وبعد النُزهة البسيطة التى يقوم بها حسام فى مساحة لا تتعدى مترين، وهى المسافة بين الغُرفة والشرفة، يعود حسام مرةً أخرى إلى الفراش، مُستلقيًا على ظهره الذى مازال يُعانى من آلام الحادث، ولأنّه لا يقدر على التنزُه فى أماكن أخرى، يُفضل أنّ يقضى باقى ساعات اليوم فى نُزهة «إلكترونية»، عبّر جهاز «لابتوب» يُرافقه على الفراش، ويساعدُه على الذهاب إلى عوالم ما وراء الشاشات الافتراضيّة، فيما يحاول أنّ يُساعد من حوله بمّا يملُك من أزرار «كيبورد» وعقل مازال يعيش حيًا: «بحاول أعمل صفحة للدار على فيس بوك، عشان أساعد الناس ويجيلهُم تبرعات، أو حتى مُساعدات معنوية».
«إخواتى بيحاولوا يسألوا عليّا، بس المركب تقيلة عليهُم»، يقولها «حُسام»، الشاب الأربعينيّ، مُبررًا قلة السؤال على أحواله، فيما اكتفى هو بالونس الموجود حولِه فى أرجاء الدار، والحكايات التى يقصّها الكِبار عن ماضٍ بعيد، والحواديت التى يأتِ بها الدراويش بعد أنّ حلقوا فى عوالم بعيدة، يفصلها عن الواقع ستارٍ رقيق: «هنا فيه حالات متنّوعة اللى يزعق ويصَرخ، اليوم بيعدّى، وكُلنا بنعيش فى سلام».
يستلقى «حسام» مرة أخرى على الفراش، يترّحم على والدهُ الذى توفى، ويُردد حكمته الوحيدة: «السؤال رزق، لو حد سأل عليك ده رزق، ولو مسألش بردو رزق، وأهو كلها أرزاق من عند ربنا».