فى سجن استقبال طرة، حيث اجتمعت فصائل كثيرة، كنا نسمع حوالى ٣ أو ٤ مؤذنين للصلاة الواحدة.. وكنا نرى صلوات متعددة تقام لنفس الفريضة فى الزنزانة الواحدة، بما يعنى أن كل جماعة لها عقيدتها وفكرها وتصورها ومنهجها، فهى لا تعترف بالجماعات الأخرى، وتعتقد أنها الممثل الحقيقى للإسلام، والوحيدة التى على الحق والصواب(!)، وكان يترتب على هذا مشكلات كثيرة، فضلا عن الصورة السيئة.. فى ٢٨ أكتوبر ١٩٨١، انتقلنا إلى ليمان أبوزعبل، حيث وجدنا غرفا واسعة (١٨ فى ٦،٥ مترا)، بدلا من الزنازين الضيقة التى تركناها بسجن الاستقبال.. تم إسكان كل ٥٠ سجينا فى الغرفة الواحدة.. وقد ضمت غرفتنا كل الفصائل تقريبا؛ ٣ إخوان، ٤ فرماوية، ٣ تكفيرين، والباقى جماعات إسلامية من أماكن شتى.. بعد أن أخذنا مواقعنا داخل الغرفة، ومنعا لتكرار ما كان يحدث فى سجن الاستقبال، وقفت وقلت للقوم: اختاروا واحدا من بينكم تجتمعون عليه وتنتظم أموركم من خلاله، فنحن لانريد تنازعا أو شقاقا كما كان يحدث.. ومن ركن فى الغرفة، قام واحد وقال: أنت ذلك الرجل.. وقام من بعده ثان وثالث، ورابع، وانتهى الأمر بمبايعة كاملة من الجميع.. وعلى أثر ذلك، قمت بتحديد من سيؤذن، ومن سيؤم الناس فى الصلاة، ومن سيتعامل مع إدارة السجن.. إلخ. كما قمت بتقسيم سجناء الغرفة إلى ٧ مجموعات، طبقا لعدد «قروانات» الفول أو العدس التى تأتينا فى كل وجبة، هذا فضلا عن مسؤولية كل مجموعة عن نظافة الغرفة ودورات المياه والأحواض كل أسبوع، وهكذا.. كان الفرماوية والتكفيريون يصلى كل منهم بمفرده، أما الباقون فكانوا يصلون معا.. لم تكن الشمس تغمر سوى مترين فقط من سور الطرقة أمام الغرفة ولمدة ساعة تقريبا.. وفى أحد الأيام، انتهى أحد الفرماوية (ويدعى أبو طالب) من غسل سراويله، ونادى على أحد أفراد الخدمة، وقال له: انشر هذه السراويل فى هذه المساحة «المشمسة»، ففعل.. وبعد قليل، انتهى واحد من مجموعة التكفير (واسمه فتحى) من غسل سراويله.. ولما نظر من باب الغرفة، وجد سراويل «أبو طالب» تحتل موقعها على السور.. فقال لواحد من الجماعات كان مارا أمام باب الغرفة: يا شيخ.. يا شيخ.. أزح هذه السراويل، وضع هذه مكانها، ففعل.. شاهد الشيخ «أبو طالب» ذلك، فقال لـ«فتحى»: هل من خلق المسلم أن تزيح سراويلى بهذا الشكل لتضع سراويلك؟ رد فتحى (محتدا): أتنعتنى بالكفر يا شيخ أبوطالب؟ قال الأخير: أنا لم أقل ذلك.. قال «فتحى»: بل قلت.. فليس هناك معنى لقولك هل من خلق المسلم، سوى أنه خلق الكافر(!).. وصارت خناقة.. بعد أن انتهينا من صلاة الظهر، جاءا يحتكمان إلى، وقام كل منهما بعرض ماعنده.. فما كان منى إلا أن ابتسمت.. قال «فتحى»: لماذا تبتسم؟ قلت: على الخيبة الكبيرة التى طالت كلا منكما.. قال: أنت الآخر تكفرنى؟ قلت: أنتم الذين تكفرون الناس ولست أنا.. قال: عموما، هذا موضوع سوف نتكلم فيه فيما بعد.. ثم أردف: أريد أن تحكم بيننا بالحق.. قلت: إن الشمس تغمر مترين فقط من السور، ونحن ٥٠ فردا، وبالتالى يصبح حق كل فرد منا هو ٤ سنتيمترات فقط.. قال: وكيف أنشر سراويلى على ٤ سنتيمترات؟ قلت (متهكما): تنشرها على «سيفها».. هذا أمر يخصك.. لقد أردتنى أن أحكم بالحق.. وحقك هو ألا تتجاوز الـ ٤ سنتيمترات.. قال: هذا غير ممكن.. قلت: حتى تعلم أنه ليس بالحق وحده تنال هدفك، وإنه لابد من قيم أخرى غيره؛ كالعقل، والحكمة، والفضل، والمروءة، والتسامح، والصفح، والعفو، والتكافل.. إلخ.. أليس كذلك؟ فسكت ولم يعقب.. وفى فترة التريض، فوجئت بمجموعة من التكفيريين جاءوا ليتكلموا معى.. قال أحدهم: لماذا يا دكتور تكفر أخانا؟ قلت: كيف هذا، وما هو دليلكم؟ قالوا: لقد وصفت عمله بالخيبة، والله يقول: «ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين» (آل عمران: ١٢٧).. قلت: الآية تتحدث عن الذين كفروا، وأعتقد أن أخاكم ليس كذلك، و«خائبين» حال، أى حال الذين كفروا يوم بدر وعودتهم من المعركة مهزومين، لم يحصلوا على ما أملوا.. والخيبة هى الحرمان.. ومعنى قوله تعالى: «وقد خاب من حمل ظلما» (طه: ١١١)، أى خسر من حمل ظلما، والظلم كما هو معلوم مراتب ودرجات؛ أدناها أن تأخذ ما ليس لك، وإن كان تافها، وأعلاها الشرك بالله، كما قال سبحانه: «إن الشرك لظلم عظيم» (لقمان: ١٣).. ثم قلت: ما فعله «فتحى» هو أدنى مراتب الظلم، وكان أولى به أن يستسمح أخاه فى نشر سراويله..