فى يوم الجمعة التالى لإيداعنا سجن استقبال طرة فى ٣ سبتمبر عام ١٩٨١، حدثت تظاهرات لحظة خروج المصلين بعد صلاة الجمعة من بعض المساجد بالقاهرة.. وأمام مسجد صلاح الدين بالمنيل، وقف رجل فى حوالى الأربعين من عمره يشهد التظاهرة عن قرب، وقد استند لسوء حظه إلى سيارة فولكس فاجن، لم يدر أنها سيارة أحد ضباط أمن الدولة.. المهم أن الرجل فوجئ بمن ينقضون عليه ويجذبونه إلى سيارة الأمن الكبيرة التى كانت تقف قريبا منه.. حاول الرجل إقناعهم بأنه لا علاقة له بما يجرى وأنه مجرد مشاهد، لكن محاولاته ذهبت سدى.. أودع الرجل فى زنزانة بالدور الرابع بسجن الاستقبال.. ومن نافذة باب الزنزانة، حكى لنا الرجل أنه جاء من ألمانيا بعد عشرين سنة من سفره إليها، لزيارة والدته المريضة بالقاهرة.. وياليته ما أتى.. فى كل ليلة كان يقف على باب الزنزانة ليحكى حكايته، مستغيثا ومستعطفا الرئيس الراحل السادات الذى يكن له كل احترام وتقدير أن يخلى سبيله، لكن دون جدوى.. بدأ يهذى فى الكلام، وبدلا من الاستغاثة والاستعطاف انزلق إلى كلام عجيب وغريب.. فى أوائل نوفمبر رأيته يسير بصعوبة، وقدماه مربوطتان بشاش.. وقد علمت أنه بعد اغتيال الرئيس الراحل فى ٦ أكتوبر، أخذ- مع آخرين- إلى سجن القلعة، حيث علق من قدميه كالذبيحة، وضرب عليهما ضربا مبرحا(!).
بعد مضى حوالى ثلاثة أسابيع من وجودنا فى سجن استقبال طرة، بدأت إدارة السجن تفتح الزنازين كلها فى وقت واحد.. كانت فرصة لكى يحدث استبدال بين السجناء، حيث تخلصنا من مجموعة التكفير التى كانت معنا، وحل محلها مجموعة أخرى من الشباب التابعين للشيخ طه السماوى.. ومع هؤلاء ارتاحت الأمور كثيرا.. فى البداية كانت فترة التريض فى حدود ثلث ساعة، زادت مع الوقت لتشمل النهار كله.. وقد أتاح ذلك لأفراد كل فصيل أن يلتقوا.. كانت فرصة أيضا أن أتعرف على شاب يدعى أسامة خليفة ليس له أى انتماء.. كان طالبا بكلية الصيدلة جامعة القاهرة، ومن فريق التمثيل بها.. سألته: ما الذى جاء بك إلى هنا؟ قال: لا أدرى.. كنت عائدا ليلا من السينما إلى منزلى بمدينة بنها، وبالقرب من المنزل فوجئت بمن يأتى من خلفى، يقبض على كتفى بقوة، ويسألنى بصوت أجش: إنت أسامة خليفة؟ قلت نعم.. فحملنى هو ومن معه وقذفوا بى من الباب الخلفى لسيارة ترحيلات، فوجدت نفسى وسط أناس ذوى لحى طويلة ويرتدون جلابيب بيضاء يرحبون بى.. انتابنى شعور بالقلق والخوف.. لم أدر ما حقيقة الأمر.. وعندما جلست أمام أحد المستشارين من مساعدى المدعى العام الاشتراكى بوزارة العدل، فوجئت به- بعد الأسئلة المعتادة- يقول لى: أنت متهم بمحاولة اغتيال عميد كلية الصيدلة.. ومن هول المفاجأة، وقعت مغشيا على.. ولما أفقت، قلت للسيد المستشار: ممكن سيجارة؟ نظر إلى باستغراب، وقال (متسائل): من الجماعات، وتدخن سجائر؟ قلت: أنا عضو فريق التمثيل بالكلية وليست لى أى علاقة بالجماعات.. قال: ألست الطالب أسامة أحمد خليفة؟ قلت: لا.. أردف يقول: ألست أمير الجماعة الإسلامية بكلية الصيدلة.. قلت: لا.. أنا أسامة محمد خليفة، وأما أسامة أحمد خليفة فهو أمير الجماعة (!!).. فى صبيحة ٢٨ أكتوبر من نفس العام، انتقلنا إلى ليمان أبوزعبل.. وفى إحدى الغرف بالدور الرابع وضعنا رحالنا.. حل معى فى نفس الغرفة، الشاب أسامة.. كان خفيف الظل، أضفى جوا مرحا على الغرفة كلها، وقد أنعم الله عليه بحفظ القرآن، والكثير من الأحاديث، فضلا عن قيام الليل.. أخلى سبيلى بعد خمسة أشهر تقريبا، أما أسامة فقد مكث عاما، ولله فى خلقه شؤون(!).. فى أوائل سبتمبر من عام ٢٠٠٦، كنت مدعوا لحضور برنامج «العاشرة مساء» الذى كانت تقدمه السيدة منى الشاذلى.. كان باقى المدعوين السادة: اللواء النبوى إسماعيل، وزير الداخلية الأسبق، مكرم محمد أحمد، فريدة النقاش، وأبو العز الحريرى.. كان اللقاء بمناسبة مرور ٢٥ عاما على اعتقالات سبتمبر ١٩٨١.. كان لقاء عاصفا، خاصة بين اللواء النبوى وأبو العز الحريرى، رحمة الله على الجميع.. ثم مناقشة حادة بينى وبين اللواء النبوى، بسبب إثارتى لموضوع التقارير والأسماء التى رفعت للرئيس الراحل السادات وكان يعوزها الدقة، حيث إن البعض ممن ألقى القبض عليهم وأودعوا السجن لم يكن لهم علاقة بأى نشاط، تعتبره الأجهزة الأمنية ماسا بأمن الوطن(!!).