محمد المختار الفال يكتب: العلاقة مع مصر وتركيا.. التناقض المفتعل! اخبار الخميس 24-03-2016 21:27

العلاقات والروابط والوشائج بين السعودية ومصر مركبة، متداخلة العناصر، منوعة المكونات، لا تتشكل من عوامل وقتية، ولا تقوم على العواطف وما تثيره الأغانى والخطب الرنانة من مشاعر، رغم المساحة العريضة والأسباب المتعددة لهذا الشعور الإنسانى النبيل، بل هى علاقة استراتيجية تقوم على قناعة بأن البلدين ركيزتان أساسيتان فى البناء العربى، وضلعان أصيلان فى السياج الأمنى والإقليمى. وأثبتت التجارب، قديماً وحديثاً، أن العقلاء فى البلدين لم تغب عنهم هذه «المسلمات»، ولهذا لم يسمحوا للعوارض الزمنية، والأخطاء «التكتيكية»، والاختلافات الظرفية فى وجهات النظر حول بعض المواقف السياسية، أن تقفز على هذه الحقائق أو تلغى أثرها أو تمس رسوخ أساسها.

والعلاقة بين البلدين مرت، فى التاريخ المعاصر، بمحطات خلاف عارض، بعضه معلن وبعضه خفى لم يغب عن المهتمين، كما عرفت جفافاً وجفاءً معلنين على المستوى الرسمى، فرضتهما مواقف متباينة لاختلاف التقدير، لكن ذلك لم يُذهب قناعة العقلاء فى البلدين بوحدة المصير، ولم يُوقف المساندة المتبادلة فى اللحظات الحرجة التى تهدد الكيانين. وحتى فى ظروف الخلاف المعلن، ظلت الروابط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مستمرة تغذى «الحبل السرى» الذى يربط بلدين شقيقين، ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما. هذه الصورة الأصيلة، التى نعيدها لأذهان من غفل عنها أو أفسدتها عنده مصادر التشويش مختلفة البواعث والمقاصد، لا تقفز على واقع تباينات يعرفها الجميع، ولا تتجاهل المواقف التى لا تتفق فيها وجهات نظر المسؤولين فى البلدين، ويستغلها البعض لتعميق ظلالها وشحنها بطاقات سلبية تظهر الغيرة على مصالح وطنية قصيرة النظر، لتحقيق أغراض خاصة، أو أهداف فئوية، أو الوقوع- خطأ- فى حبائل تنفيذ أجندة تكره أن ترى هذين البلدين على وفاق يختصر الكثير من الوقت والجهد فى سبيل تسهيل تبادل المنافع بين الشعبين. والعودة للتذكير بالمواقف التاريخية والروابط المصيرية بين البلدين، التى تجاوزا فيها «منعطفات الاختلاف» للمضى على طريق التعاون لأجل حفظ أمنهما واستقرارهما، ليس هدفه التغنى بالماضى أو الإشارة إلى من ضحى ومن دعم ومن أعطى ومن أخذ، فهذا ليس هدف هذه السطور ولا تتفق مع رؤية صاحبها، بل ترفضه وتحتقر من يستخدمه لغرض المنّ أو إيغار الصدور، لكن الهدف هو المساهمة الإيجابية فى جلاء حقيقة وقيمة ما يدور من لغط حول فتور العلاقة بين البلدين لاختلاف وجهات النظر حول بعض القضايا الراهنة وما يجرى من تبدلات وتحالفات فى المنطقة واستغلال بعض قصيرى النظر، فى الجانبين، وأصحاب الأجندة الخاصة والنزعات الأيديولوجية لهذه الإشارات ليجعلوا منها شواهد وبراهين على تراجع حيوية العلاقة بين البلدين عما كانت عليه قبل سنتين. ويبحث المشككون وأصحاب الأهداف الخاصة عن أسباب «موضوعية» لما يتوهمون أنه دليل يبرهن على تباعد سياسة البلدين ومواقفهما، رغم الخطاب الرسمى المعلن، يستندون إليها لإقناع من يصغى لأوهامهم أو تؤثر فيه تعليلاتهم. ولا يجد هؤلاء من الأدلة والشواهد على صحة تصوراتهم وسلامة تحليلهم غير تحسن علاقة المملكة ودول الخليج بتركيا، فيعتبرون ذلك شاهداً ملموساً على تباعد البلدين، إذ يرون فى تحسن العلاقة بين المملكة وتركيا «تناقضاً»، مع احتفاظها بموقفها التاريخى من مصر، نتيجة للخلاف بين تركيا ومصر منذ 30 يونيو 2013، حين أبدت تركيا موقفاً رافضاً لآلية التغيير الذى حدث فى مصر وما تلاه من تداعيات. وحين يحاول أصحاب هذا الرأى تطوير فرضيتهم وبيان براهينها، من خلال مناقشة هذا «التناقض المتوهم»، يستدعون التاريخ بحثاً عن مواضع تعارض وتناقض المصالح العربية التركية، مستلين من ملفات الماضى براهين على سطوتهم وطموحاتهم، وهم فى غمرة «المجادلة» ينسون مبادئ السياسة ومتغيراتها وتجدد المصالح وتأثيراتها ومخاطر الصراع الإقليمى ومقتضياته، ويقفزون إلى أن التقارب مع أنقرة يعنى، بالضرورة، الابتعاد عن القاهرة فى هذا الوقت الذى يغيب فيه التفاهم والانسجام بين من يحكمون فى العاصمتين. وهذا الاستنتاج فيه اختزال معيب لتاريخ المنطقة لا يخدم مصالح أهلها كما فيه تجاهل غير رشيد لحقائق ماثلة تجرى على الأرض تهدد بتغيرات «جيوسياسية»، وانزياحات «ديموغرافية» تستهدف تغيير خرائط كيانات قائمة لعشرات السنين. ولأصحاب هذه «العماية» السياسية نقول: قليلاً من الهدوء وإعمالاً للعقل واستبصاراً للمستقبل وتقديراً للمواقف وإدراكاً لحسابات الربح والخسارة وبحثاً عن المشتركات التى تجمعنا مع البلدين. تأملوا، بموضوعية ونزاهة، ما يجرى على الأرض فى العراق وسوريا واليمن، وتعرفوا على مكامن القوة والضعف، وانظروا حال الاصطفاف من حولكم ومن يقف مع من. وضع القضية فى صورة «مفاضلة» بين مصر وتركيا تبسيط مخل، ومنهج يفسد الحوار العاقل ولا يساعد فى وضع الأمور فى نصابها، فلا أحد يجادل فى أن مصر إحدى ركيزتى العرب التى تقوم عليها خيمة مجدهم، وعلاقتها مع المملكة علاقة مصير مشترك ومصالح جوهرية، بغض النظر عن أى اعتبارات آنية متغيرة، وفى الوقت نفسه لابد من الإقرار بأن تركيا دولة محورية فى هذا الجزء من العالم، ولاعب رئيس فى قضاياه وأحداثه السياسية والعسكرية منذ مئات السنين، وعضو فى أقوى منظمة عسكرية على وجه الأرض «الناتو»، تمثل أكبر تكتل سياسى واقتصادى وعلمى فى العالم، وتجمعنا بها- تركيا- مصالح سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية، والتنسيق معها، فى هذا الظرف الذى تشهد فيه المنطقة العربية حالاً من التمزق والاختراق والانحيازات الطائفية، يعد أمراً مهماً يقترب من الضرورة، والتفريط فى تقويته، لاعتبارات غير جوهرية، يحسب قصر نظر لا يليق بالمهمة التى تنهض بها المملكة وهى تتصدى لمسؤولية إيقاف انهيارات مؤسسات الدولة فى الكثير من المجتمعات العربية، ومواجهة مشاريع تمزيق خرائطها وإدخالها فى نفق فوضى لن تخلف إلا المزيد من التشتت والدمار وإهدار الطاقات وتوريث جيل من اليائسين كارهى الحياة.

المملكة قدرها أن تحلق بجناحيها العربى والإسلامى، والذين يعملون لإضعاف أحد جناحيها، جهلاً أو قصور تفكير، لا يخدمون مكانتها، بل يخذلون قواها الفاعلة عن أداء دورها فى مجاليها العربى والإسلامى.

نقلاً عن جريدة «الحياة» اللندنية