رغم أنه رحل عن دنيانا وله من العمر 31 سنة فقط إلا أنه ترك وراءه تراثا خالدا مازلنا نتغني به إلى الآن ومن أشهره النشيد الوطني لمصروهو «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» والكثير من الأغاني الشهيرة الأخري ومنها «زوروني كل سنة مرة وأنا هويت وانتهيت».
وربما كان العمر القصير هو قَدَر العباقرة الاستثنائيين الذين يعيشون حياة خاطفة قصيرة كشهاب بارق لكنهم يتركون أثرا خالدا بما قدموه من مواقف خالدة وتراث حافل، ومن هؤلاء فنان الشعب الشيخ سيد درويش، الذي رحل عن دنيانا في ١٥ سبتمبر عام ١٩٢٣م، وكان له من العمر آنذاك ٣١ عاما فقط.
ففي أسرة كسائر الأسر المصرية البسيطة، التي تبحث عن قوتها يوما بيوم، واليوم يكون قد مر على مولد فنان الشعب سيد درويش ١٢٣عاما فقد ولد «زي النهارده» في ١٧مارس ١٨٩٢ وكان مولده في كوم الدكة بالإسكندرية والتحق بكتاب الحى وقُدّر له أن يحمل مسؤوليات أكثر من طاقته، فقد توفي والده وهو في السابعة، كما دفعته أسرته إلى الزواج وهو في السادسة عشرة من عمره، واضطرته تلك المسؤوليات إلى العمل مبكرا.
وكان قد التحق بالمعهد الدينى بمسجد أبىالعباس المرسى الشهير، ولأنه كان يجد في الغناء عزاءً عن الشقاء فكان يغنى أغانى مشاهير المشايخ آنذاك ووجد فيه أصدقاؤه موهبة لافتة فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل ذلك فقبل، لكنه ظل يعمل «بنّاءً» لحساب أحد المقاولين فلما سمعه المقاول ووجده يلهب حماس العمال عرض عليه التفرغ للغناء للعمال بينما يحتفظ بنفس الأجر.
وفي عام ١٩٠٩ كان هناك رجلان من الشوام يجلسان على مقهى في مواجهة موقع البناءهما أمين وسليم عطاالله صاحبا فرقة مسرحية بالشام، عرض الرجلان عليه على الفور العمل بفرقتهما فقبل الشيخ سيد وسافر في أول رحلة له خارج مصر وعمره حينئذ ١٧ عاما، لكنه لم يمكث غير عشرة شهور لم يوفَّق فيها ماديا.
التقى سيد درويش بعثمان الموصلى مرة أخرى في رحلة ثانية إلى الشام مع نفس الفرقة وفي عام ١٩١٤ عاد سيددرويش للعمل بمقاهى الإسكندريةوبدأ يبدع ألحانه الخاصة وظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود، وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين، وبدأ نجمه في الصعود وسمع عنه الشيخ سلامة حجازى، وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، وما إن سمعه حتى عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة.
وكان الشيخ سيد يغنى بين الفصول وتلقّى استقبالا فاترا من الجمهور وأصيب الشيخ سلامة نفسه بصدمة جعلته يخرج إلى الجمهور ليقدم سيد درويش قائلا: «هذا الفنان هو عبقرى المستقبل» غير أن إحباط الشيخ سيد دفعه للعودة إلى مدينته وفي عام ١٩١٧ عاد إليه الشيخ سلامة ليقدم له عرضا أقوى، حيث طلب منه التلحين لفرقة جورج أبيض رواية كاملة ويذيع صيته وتتهافت عليه فرق أخرى وتندلع ثورة ١٩١٩ فقام بتغذيتها بالأناشيد الوطنية. وفي عام ١٩٢٠ أسس سيد درويش فرقته الخاصة.