مصر الدولة الوحيدة، من بين الدول الأعضاء الـ١٥ بمجلس الأمن الدولى، التى رفضت الموافقة على قرار يردع الانتهاكات الجنسية، التى يرتكبها جنود قوات الأمم المتحدة. القرار نص على إعادة وحدات بأكملها إلى أوطانها، فى حالة الاشتباه بارتكاب انتهاكات أو استغلال جنسى، وفى حالة عدم اتخاذ بلد ما أى إجراء ضد جنوده المذنبين، يمكن استبعاده تماماً من عمليات حفظ السلام.
الكلام بهذا الشكل، فى ظاهره وباطنه، لا غبار عليه، ولا يمكن لأى عاقل أن يتوقف أمامه، أو يعترض عليه لأى سبب من الأسباب، إلا أن مصر، من خلال مندوبها فى المنظمة الدولية، قالت إن القرار يفرض عقوبات جماعية على جرائم يرتكبها بضع عشرات من الخارجين على النظام. المندوب المصرى افترض أن بلاده هى المنوط بها القرار، أو أن قوات بلاده فاقدة الأهلية مثلاً، فقال إن المقاربة التى يقوم عليها القرار قد يكون لها أثر خطير على معنويات القوات، وتلطيخ سمعة بلدان تمد الأمم المتحدة بجنود لقواتها.
روسيا والصين وفنزويلا وأنجولا والسنغال كانت قد أيدت تعديلاً مصرياً فى البداية، قبل أن تتحول إلى الموافقة، بينما اعتبرت المندوبة الأمريكية، صاحبة مشروع القرار، أن التعديل المصرى كان سيسىء للهدف من القرار، وهو التصدى لسرطان الانتهاكات، والاستغلال الجنسى الذى يقع ضحيته أناس منحوا ثقتهم لراية الأمم المتحدة.
أعتقد أن ثقافتنا المصرية، فى مثل هذه الأمور، تنطلق من وصايا الرسول، صلى الله عليه وسلم، للجيوش: لا تغدروا، ولا تَغلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا شيخاً كبيراً، ولا مريضاً، ولا راهباً، ولا تقطعوا شجراً، ولا تخربوا عامراً، ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تُغرقوا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقربوا نخلاً، ولا تهدموا بناء.
بالتأكيد كانت مصر، من بين الدول الأعضاء فى المنظمة الدولية، هى الأَوْلى بتقديم مشروع قرار مثل ذلك المشار إليه، بل كان من المهم أن تضيف إليه كل ما أوصى به الرسول الكريم، بدلاً من اختزاله فى الانتهاكات الجنسية، كان من المهم تضمين القرار انتهاكات القوات بصفة عامة، وليس القوات الدولية فقط، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار انتهاكات قوات الغزو الأمريكية، بالشعب العراقى الشقيق، من قتل، واغتصاب، وتعذيب، وقمع، وكل الآثام التى سجلتها روايات القهر، والتى لم تسجلها، وها هم يزايدون على العالم بمشاريع قرارات هى فى حقيقتها قاصرة.
أتصور أن وجود مصر على مدى عامين، كعضو بالمنظمة الدولية، كان فرصة لتسجيل مواقف مشرفة ومشرقة، تشير إلى أن هناك شعباً صاحب حضارة سبعة آلاف عام يحترم كل الطوائف والعرقيات والأيديولوجيات، ويرفض فى كل الأحوال التعدى على الآخرين باللفظ أو الإشارة، فما بالنا بالاعتداء الجنسى، الذى يعد من الثقافات المرفوضة والمنبوذة أصلاً فى مجتمعاتنا الشرقية ككل، فما بالنا بالمجتمع المصرى، الذى عاش فى الماضى القريب حالة غير مسبوقة من التوتر، والشد والجذب، نتيجة حالات تحرش لفظية فردية، لا تمت إلى أخلاقنا وثقافاتنا بأى صلة.
أرى أن الأمر يتطلب توضيحاً من وزارة الخارجية، إن لم يكن من مؤسسة الرئاسة، ذلك لأن المندوب المصرى بالتأكيد لا يتصرف من تلقاء نفسه، بالتأكيد هناك مشاورات مسبقة، هناك تعليمات يحصل عليها من القاهرة، وليس العكس. نحن إذن أمام موقف مصر، وليس موقف شخص، هو موقف سجله التاريخ، سجلته مضابط مجلس الأمن، فى توقيت لا حديث فيه للشارع المصرى، وربما العربى، إلا عن إقالة وزير، بسبب زلة لسان عن غير قصد بالتأكيد، بما يتناقض مع مواقف الدولة الرسمية فى الخارج من القضايا الأخلاقية، وبما يشير إلى انفصام واضح.
هذه القضية أيها السادة يجب ألا تمر مرور الكرام، نحن نتحدث عن قرار دولى تم إقراره بالفعل، شئنا أم أبينا، امتناع مصر عن التصويت بنعم، لم يُقدم ولم يؤخر، هذا هو ما كان يجب أن نضعه فى الاعتبار، لقد سجلنا موقفاً لا أكثر ولا أقل، إنما هو تسجيل فى غير محله تماماً، وكأننا تعاملنا مع مشروع القرار، إما انطلاقاً من مبدأ «خالف تُعرف»، وإما من مبدأ الخوف على شىء ما، وكأن جنودنا فى القوات الدولية- لا قدر الله- منفلتون مثلاً، وهذا غير صحيح، إنما هذا هو قدَرهم، هذه هى دبلوماسية بلدهم، وتلك هى سياساتها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.