ما أسهل وأيسر الهجوم والرفض والشجب والاستنكار بأشد العبارات قوةً ورنيناً، والتنديد حكومةً وشعباً وبرلماناً، بقرار «البرلمان الأوروبى» بإدانة تعذيب واغتيال الباحث الإيطالى، جوليو ريجينى، في ظروف مريبة، والتوصية لدى دول الاتحاد الأوروبى بمراجعة ملفات التعاون مع مصر، فضلاً عما ساقه القرار من إدانات عديدة تطال «الملف الحقوقى» المُتخم بتجاوزات «منسوبة» إلى الدولة المصرية من توقيف ومنع للتظاهر والسفر وتعذيب في أماكن الاحتجاز والتضييق على الحريات، وكلها ممارسات لها ظل من الواقع إن شئنا الصدق، ويجب الحد منها ومنعها، فالخلاف هنا يدور حول العدد أو الكّم، وليس الكيف.. إذ إن الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه أقر غير مرة بوجود «مظاليم» في السجون، متعللاً بظروف الحرب على الإرهاب، بل وقرر الإفراج عن المئات في أوقات سابقة، إلا أن مقتضيات العدل والملاءمة السياسية تستوجب إطلاق آلية للفرز كفيلة بتحديد هؤلاء المظاليم وتحريرهم من محبسهم، سيما والأمر لا يخلو من تلفيق التهم لأبرياء بما قد يسوقهم إلى حبل المشنقة، تسرعاً لتقفيل ملفات قضايا تشغل الرأى العام، وهو ما يفسر كثرة الشكاوى من وجود كثيرين قيد الاحتجاز.
لقد تعالت صرخاتنا مدوية رفضاً وسباً للقرار الأوروبى وأسانيده، وانطلقنا توزيعاً للاتهامات بأنها مؤامرة إخوانية- أمريكية- بريطانية، يتبناها البرلمان الأوروبى لإسقاط الدولة، بل وصل الحال بأحد الجنرالات من نوابنا الموقرين في مداخلة هاتفية مع برنامج «90 دقيقة» على قناة «المحور»، مساء السبت، أن اتهم أعضاء البرلمان الأوروبى بتبنى هذا القرار مقابل رشوة(!!!)، أي والله حصل وسمعته بأذنى، ولم يكن ينقصنا سوى القول بأن «ائتلاف دعم أوروبا» الذي تحركه أجهزة مخابراتية أوروبية أو أمريكية بالريموت كنترول هو الذي يقف وراء إثارة البرلمان الأوربى ضدنا.. لكن.. هل هذا الصراخ وهذه البيانات الهروبية كفيلان بحل المشكلة أو نفى وجودها؟.. بعبارة أخرى.. هل بهذه الطريقة يمكن إفساد المؤامرة على مخططيها.. أم أننا نهيئ لها البيئة المناسبة ونساعد على نجاحها ولو بدون قصد؟.. هذه الوسائل ربما تصلح للتداول بيننا، لكنها لا تُقنع الأوروبيين، فلن ينفع معهم سوى تقديم قتلة ريجينى للعدالة لتقتص منهم، سواء كانوا أفراداً عاديين أو أمنيين، مع تلافى ملاحظاتهم الحقوقية، حصاراً للأزمة ووأداً للمؤامرة.. لأن قرار البرلمان الأوروبى، وإن كان غير ملزم لدول الاتحاد، إلا أنه مُسىء لسمعة مصر عالمياً ويضر بها على المديين القريب والبعيد، وينال منها سياسياً، واقتصادياً بتنفير الاستثمارات وفقدان الأمل في تعافى السياحة وعودتها في قابل الأيام.. ولا يفوتنا أن القرار الأوروبى يكرر إدانات حقوقية سبق ترديدها في بيانات منظمات محلية ودولية.
سوء الفهم المتبادل مع الأوروبيين يرجع إلى اختلاف الرؤى حول قيمة الإنسان وحقوقه أو المساس بسلامته وحريته.. فقضية «ريجينى» بالنسبة لنا هي العثور على «مجرد جثة»، وهو أمر يحدث عندنا كثيراً ويمر عادياً.. هذه المرة تصادف أن «الجثة» لمواطن غربى، جرى نقلها للمشرحة، ثم «أفتت» وزارة الداخلية أو رجحت وفاته في «حادث سير مرورى»، وسرعان ما توالت بعدها التلميحات أو «الفتاوى» تفسيراً للوفاة الغامضة.. نفس «الجثة» دفعت وزيرة التنمية الإيطالية لقطع زيارتها لمصر، وأدت لتأزيم العلاقات التاريخية مع إيطاليا أكبر شريك تجارى لنا.. ثم جاء قرار الاتحاد الأوروبى كاشفاً أن ذات «الجثة» على وشك أن تؤدى لتغيير سياسات الاتحاد الأوروبى تجاهنا، جراء ضغوط الأغلبية الكاسحة لممثلى الشعوب الأوروبية الغاضبة لما ناله جوليو ريجينى من أذى وتعذيب وقتل بطىء أياً كان الفاعل أو كنيته.. فهناك تعلو «قيمة الإنسان» وحريته وسلامته فوق كل الرؤوس.. وبالبلدى كده.. هو ده «مربط الفرس»، وأصل المشكلة.
نسأل السلامة لمصر.