حين دخلتُ مكتب الدكتور حسن الترابي بالخرطوم في ذلك اليوم القائظ من صيف 2008، لفتني أول ما لفتني طبق اللوز والبلح الذي يجاور فنجان قهوته.
ساعتها كنت مهمومًا بالأنماط الغذائية الغريبة بعض الشيء التي يتبعها المفكرون والمشاهير وبعض رجال السياسة، وكان على رأسها تناول اللوز والبلح ولحوم الجمال والعسل الأبيض.
نحيت الفكرة التي بدت طفولية وعبثية جانبًا، وسلمت على الشيخ الترابي وعرفته بنفسي تعريفًا كان يغني عن كل شيء في حينها: «أنا صحفي مصري».. فانسابت وجيعة الرجل وانطلق لسانه.
فهو على ما أسر لي، يتمنى لو زار القاهرة، لكن رسالة شديدة اللهجة، نقلا عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، وصلته بأنه لو جاء إلى مصر فسيذهب فورًا من المطار إلى ليمان طرة.
وكان أن دار الزمان دورته، فجاء الرجل إلى القاهرة في أعقاب ثورة يناير، بينما يثوي مبارك –حينها- في ليمان طرة. فسبحان من بيده مقاليد كل شيء!
(2)
تدفق الراحل- غفر الله له- ساعتين بلا انقطاع في حديث لم أجرب ما هو أكثر إمتاعًا منه إلى الآن.
في مفتتح الحوار قال لي إن سيدنا آدم والسيدة حواء كانا سودانيين!
سألته لم وكيف؟
سألني: ما معنى «آدم»؟ قلت له على حد ما تشير المعاجم فإن الأدمة هي السمرة. فأقر: نعم.
ثم سألني ما معنى حواء؟ فقلت لا أعرف. قال لي ما معنى قول الحق عز وجل (فجعله غثاء أحوى)؟ قلت له: وضح أكثر لو تكرمت.
قال: أحوى أي أسود، ومنه اشتقت «حواء»، أي أن آدم وحواء كانا سمراوين، ثم انتصر لفرضية أنهما استوطنا السودان حين هبطا من الجنة، ليصبح أبونا آدم وأمنا حواء سودانيين وفقا لوجهة نظر الرجل التي عضدها بكلام الله وما استشفه منه!
ذهب الدكتور الترابي إلى أن السودانيين حين تدفقوا إلى القاهرة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، قوبلوا بعنصرية من المصريين، فكل سوداني في وجهة نظر المصريين كان «بوابًا» على حد وصفه.
الأمر الذي تسبب في أن ينطوي السودانيون تحت لواء الإخوان المسلمين أو في حاضنة الحركة الشيوعية المصرية، ففي كلا الجناحين لقي أبناء النيل احترامًا نسبيًا، مقارنة بالسخرية العنصرية التي كانوا يلقونها خارج التنظيم السياسي.
فالإخوان كانوا يرونهم إخوة في الله.. والشيوعيون كانوا يصنفونهم إخوة في الطليعة الثورية.
(3)
ثم انطلق في هجوم عات على مشايخ السعودية، وأخذ يقلد أصواتهم ولكناتهم في ردودهم عليه، بينما يجزم بأن «سودانيته» هي التي قللت من فرص استقبال طروحاته الدينية بالاحتفاء اللازم، موافقة ورفضا، نقاشا وتفنيدًا، تقليبًا واهتمامًا.
ألح هاجس تقليل المناخ العربي من إيلاء المثقف السوداني ما يستحقه من تكريم واحتفاء على الشيخ الترابي لدرجة استنفرته في الاتجاه المضاد تمامًا، إلى حد السعي لإثبات سودانية آدم وحواء أصل البشرية نفسها، إذا لزم الأمر!
هكذا بدا لي الرجل، جريحًا من ناحيتين.
ناحية محيطه الوطني، ثم محيطه الإقليمي.
فهو شيخٌ طاعن في السن، ألمعي المهارات والقدرات، حاد الذهن حاضر الفكرة، يلم بأطراف الحضارة العربية منذ نشأتها وحتى اللحظة، ويعرف أركان الحضارة الغربية أدبًا وفكرًا وقانونًا وتاريخًا، ويجيد 4 لغات ينطقها فصيح البيان هادر الحجة.
ورغم ذلك ينكر محيطه العربي قيمته.
فالرجل إن أردته شيخًا فهو من طراز الشيوخ النادر الذين تتوقف لدى سيرتهم واجتهاداتهم الأمة كثيرًا، وإن أردته مثقفًا فهو من أنضج العقول العربية التي هضمت الحضارة الغربية واستوعبتها عن دراسة أكاديمية ومعايشة دقيقة، وتمكنت من استخلاص ما تريده من معارفها.
دراسته القانون في السوربون أضافت لألمعيته كرجل يمتلك جسارة الاشتباك مع النص الديني ليستخلص منه غير ما استقرت عليه الأمة قرونًا. فهو يكيف وجهة نظره من القوانين إن أراد ومن متون الفقه إذا أشار، لا تعييه حجة ولا يعطله اختراع السبب أو تلفيقه.
ومن إنكار المحيط العربي، كانت نقمة الداخل حاضرة عليه.
ففي السودان تندر معي أحد الأصدقاء قبل مقابلة الرجل وقال لي: الحكمة السودانية تقول: إياك أن تُسيء الظن بالترابي.. فالترابي أسوأ من سوء الظن!
ولعلها كانت نكتة من إنتاج نظام البشير الذي عادى الرجل وخاصمه بعدما كان هو مايسترو حركاته وصائغ عقيدته وكاهن دولته.
لكن القصة المتداولة تقول بأن جماعة من الناس ذهبوا قبل عقود طويلة إلى والد الشيخ حسن الترابي، وقد كان فقيها هو الآخر، وطلبوا رأي الدين في مسألة من المسائل، فقال الرجل إن الشرع يحرمها تمامًا.
فاستاء الناس وحاولوا مع الشيخ وطلبوا منه أن يبحث عن أي تخريجة أو رأي استثنائي يبيح لهم ما يريدون، فرفض الرجل. وحاولوا معه مرارًا وتكرارًا حتى اشتد غضبه فقال: الدين يقول هذا الأمر حرام.. إذا أردتموه حلالا فاذهبوا لابني حسن!
في إشارة مبكرة إلى قدرة «الشيخ حسن» على التلاعب بكل نص وفكرة ليكيفها كيفما يشاء.
لو صحت الرواية / النكتة فهي تشير إلى محيط داخلي، بمقدار ما كان يعتز بذكاء الرجل، كان يراه إمام المراوغين.
وكان يتشكك في نواياه أينما حل.
فقطرةٌ واحدة من البحر تغني كي تعرف أنه مالح.
(4)
خاض الرجل في مسائل الشريعة والعقيدة والقانون والحضارة عبر ساعتين كاملتين كأنما الأفكار كلها منسوجة في ذهنه على نحو بديع.
بدأ لقاؤنا وانتهي والرجل منفردا بمنصة الحديث، أقاطعه فيأبى، أستفسر منه فيعرض، أبتسم له فيجاريني، أبدي إعجابي فيزايد على غرابة أفكاره.. كأنما هو في عرض مسرحي مبهر.
هو هكذا، لا يريد مقاطعة ولا يلتفت إلى معارضة أو استفسار حقيقي. لا يريد أن يقطع أحدٌ حبل فكرته ولا متعة ارتجال الأسباب وإضفاء الوجاهة على كل ما يموج بخلده وكل ما فعله.
وحين انتهى اللقاء كان سؤالا بعينه يستغرقني.. باعثه الأول والأخير إنساني محض.
لماذا انخرط هذا الرجل في السياسة وأضاع على نفسه وعلى أمته فرصة الالتفات لمشروعه الديني ومنجزه الفكري؟ لماذا انجر لسفاسف الدنيا وقد كان في المقدور أن يتصدر اسم الرجل مراجع التاريخ بجوار ابن حزم وابن خلدون؟
لعله الإحباط القديم. إحباط الطفل حسن الترابي الذي لم يلق تقديرًا لائقًا بعقله الاستثنائي، ثم إحباط الشيخ والمفكر حسن الترابي الذي أهدره محيطه العربي، فكان أن استعاض عن كل هذا بمشاكسة الشأن السوداني الداخلي لتنحصر سنو الرجل بين السجون وأروقة الحكم وصفوف المعارضة في لعبة كراس موسيقية مؤسفة.
وبين كرسي وأخيه في اللعبة، كانت الأرواح تضيع وكان مستقبل السودان وحاضره يتمزق في غمار ألاعيب الرجل وأفكاره.
(5)
فزعت حين رأيت جنازة الترابي، بينما تحمل الأيدي الجثمان النحيل في ضجعته الأخيرة.
فقد صافحت كفي كف الرجل، وجالسته وأحببته، وأخذت منه ورددت عليه، لكنه انتهى كما ينتهي كل شيء.
رحمك الله يا شيخ حسن، ولعل جرحك الغائر الآن بين يدي أرحم الراحمين يداويه. وغفر الله لك زلات السياسة.
أما ما جررته على أمتك وبني وطنك بتلاعبك بكل شيء، وبتسمية الأمور بغير مسمياتها وبإسباغ الشرعية في كل مرة على سفاح غير أخيه، فهذا حسابه بين يدي السودانيين أنفسهم، قبل أن يسألك عنه من لا يغفل ولا ينام.
قيل في السياسة: أدرك الموت الترابي قبل أن تدركه المحاسبة.
واليوم أدركه الموت والمحاسبة.. فكيف الحال وأنت موقوفٌ ومسؤول عن كل منطوق ومفعول؟
رحمنا الله إذا صرنا إلى ما صرت إليه..