أكذوبة كبيرة نعيشها في مصر، خلال السنوات الأخيرة، تتعلق بالقضايا المتداولة أمام النيابات والمحاكم من شقين، الأول منهما ما يطلق عليه البعض التأثير على القضاء، والثانى الخاص بالتعليق على أحكام القضاء، في وقت ربما لا توجد فيه أي دولة متحضرة، أو حتى تنشد التحضر، تعيش هذه الأكذوبة، بهذه الطريقة التي نتعامل بها نحن في مصر.
المتعارف عليه أنه بمجرد وقوع الحدث، أو القضية، في أي بلد في العالم، يبدأ الإعلام في النشر على أوسع نطاق، بما يساعد بالطبع في كشف الحقيقة للقارئ، وهذا أبسط حقوقه، وفى نفس الوقت مساعدة جهات التحقيق في كشف غموض جوانب كثيرة، قد تغيب على جهات جمع الأدلة، أو حتى جهات التحقيق، وبذلك يظل الرأى العام بمثابة مراقب لمجريات القضية، من بدايتها حتى نهايتها، ومن هنا منح القانون المواطنين الحق في حضور جلسات القضية، أي قضية، في إطار هذه الرقابة على تحقيق العدالة.
فيما يتعلق بالشق الأول، المتعلق بالتأثير على القضاء، يمكن القول إن المحكمة من المفترض أنها تتعامل مع الأوراق والمستندات التي بين أيديها، وليس مع قصاصات الصحف، أو برامج التليفزيون، فقد تكون هذه القصاصات، أو تلك البرامج أحد العوامل المساعدة في تسليط الضوء على جوانب أغفلتها جهات جمع الأدلة، ممثلة في جهات الأمن، أو حتى النيابة العامة، إلا أنها أبداً لن تكون بمثابة الضاغط على المحكمة لإصدار هذا الحكم أو ذاك، وإلا فإن هذه المحكمة أو تلك لا تصلح أساساً لنظر القضية، أي قضية.
أما الشق الثانى، المتعلق بالتعليق على أحكام القضاء، فينبغى التأكيد على أنه لا يوجد في القانون ما يمنع ذلك أبداً، بل إن أحداً لن يستطيع منع الشارع من الإشادة بحكم قضائى ما، أو حتى الملاسنة، أو التنكيت والتبكيت على هذا الحكم أو ذاك. وعلى سبيل المثال، فإن محكمة ما إذا أصدرت حكمها مثلاً بإعدام خمسمائة متهم دفعة واحدة، من خلال جلسة واحدة أو جلستين، أو دون حصول المتهمين على حقهم في المرافعة، أو تقديم مذكرات، أو إذا ثبت فيما بعد أن بعضهم كان خارج البلاد وقت وقوع الحدث، أو أن بينهم أطفالا دون سن الرابعة، كيف يمكن إذن أن نطلب من الرأى العام، أو حتى وسائل الإعلام، عدم التعليق على الحكم، بل وعدم انتقاده.
في الحالتين، سواء ما يتعلق بمقولة التأثير على القضاء، أو التعليق على أحكام القضاء، نحن إذن أمام ديكتاتورية، أرساها البعض، لحساب قضايا بعينها، ولحساب أوضاع بعينها، ثم تم تتويج ذلك بما يسمى حظر النشر أساساً في هذه القضية أو تلك، دون مبرر منطقى في معظم الأحيان، على الأقل من وجهة نظر الرأى العام، الذي أصبح ينظر إلى مثل هذه الأمور على أنها مجرد حاجات في نفس يعقوب، ما كان يجب أن تصدر عن منظومة، نسعى جاهدين إلى تحسين صورتها وسمعتها، وبصفة خاصة في هذه المرحلة، التي أصبحت الشبهات فيها هي الأصل، في كل مجريات حياتنا تقريباً.
جال بخاطرى هذا الموضوع، وأنا أطالع أنباء إحدى القضايا المهمة بلائحة اتهامات لم أستوعبها، ربما لأن الإعلان عن الخبر، أو عن القضية، لم يواكبه شرح واف للأسباب، ومن وجهة نظرى الشخصية أيضاً، كان في حاجة إلى دراسات مستفيضة من جوانب عديدة، إلا أننا لا نستطيع الخوض فيها، حتى لا نقع تحت أي طائلة، مما هو غير قانونى، أو غير موضوعى.
لذلك، آمل ألا نفاجأ، ذات صباح، بحظر النشر في هذه القضية، أو غيرها من القضايا، بل آمل أن يختفى هذا الإجراء من حياتنا تماماً، خاصة حينما نكون أمام قضايا رأى عام، ليس من الحصافة أبداً التعامل معها بسرّية، في الوقت الذي سوف تتابعها، أو تسعى إلى متابعتها بقوة وسائل الإعلام الأجنبية.
سوف تعتمد وسائل الإعلام طوال الوقت على تكهنات، أو على مصادر مجهلة، أو غير موثوقة، لذا فإن الأمر يستدعى إصدار بيانات يومية، أو شبه يومية، توضح الحقيقة كاملة، وإلى أي مدى وصلت التحقيقات، وذلك احتراماً لحق المواطن في المعرفة من جهة، ومن جهة أخرى درءاً للشائعات التي قد تكون أكثر ضرراً بالقضية، خاصة عندما تختفى القضية عن الأنظار عدة سنوات، ثم نفاجأ بمن يجيب بأنه لا توجد قضية بهذا المعنى، أو بهذا الرقم.
على أي حال، مازلت أثق في أن القضاء في مصر سوف يعيد النظر، إن عاجلاً أو آجلاً، في كل هذه الحالة المرتبكة، التي قللت كثيراً من شموخه في أعين المواطن، ليس ذلك فقط، بل لدى الرأى العام الخارجى والمنظمات الدولية ذات الصِّلة، خاصة أنه لا يوجد لديهم ما يسمى التأثير على القضاء، ولا يعرفون ما يسمى منع التعقيب على أحكام القضاء، كما أن حكاية حظر النشر هذه هي الأخرى تحولت، جماهيرياً، إلى حالة كوميدية مصرية خالصة.