حال حضورى مهرجان برلين دون المشاركة فى وداع ثلاثة من أعمدة مصر الكبرى فى الصحافة والسياسة والأدب، وهم: محمد حسنين هيكل وبطرس بطرس غالى وعلاء الديب، الذين غابوا عن الدنيا فى أيام قليلة متعاقبة.
مثل نجيب محفوظ وعمر الشريف، رحمهما الله، وأحمد زويل ومحمد البرادعى، أطال سبحانه عمرهما، لا يوجد فى العالم من أقصاه إلى أدناه من لا يعرف هذه الأسماء، كل فى ميدان إبداعه، وكذلك هيكل فى الصحافة وغالى فى السياسة، وهناك اختلافات فى تقييم دور كل منهما، وهو أمر طبيعى، ولكن لا خلاف على القيمة أو التأثير.
هيكل وغالى من نتاج الفترة الليبرالية فى تاريخ مصر الحديث من 1922 إلى 1952 التى أعقبت ثورة 1919 وانتهت مع ثورة 1952 التى أقامت نظام حكم الحزب الواحد، ولكن هيكل وغالى تفاعلا مع زعيم ثورة 1952 جمال عبدالناصر، الذى كان أيضاً من نتاج الفترة الليبرالية، أو العصر الذهبى لمصر فى القرن العشرين.
استطاع هيكل أن يجعل الأهرام جريدة دولية بكل معنى هذه الكلمة، حتى إننى عندما ذهبتُ إلى مهرجان كان عام 1967 لأول مرة، موفداً من جريدة الجمهورية، وقدّمت نفسى إلى كرستين لاشفور، رئيس قسم الصحافة فى المهرجان، وقلت: الجمهورية، قالت تقصد الأهرام، وكأنه لا توجد صحيفة أخرى فى مصر!
وليس صحيحاً كما هو شائع أن قيمة أهرام هيكل كانت مُستمّدة من علاقته الشخصية مع عبدالناصر، وإنما من مراعاة هيكل الأصول المهنية فى أعلى درجاتها حتى أصبح عبدالناصر فى حاجة إلى الأهرام، وليس العكس، كما استطاع هيكل أن يجمع فى الأهرام أغلب أعمدة مصر فى القرن العشرين، خاصة من العصر الذهبى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وأن يحمى إبداعهم من بطش السلطة بقدر ما يستطيع وإن لم يستطع وقف الاعتقالات ومنع تأميم الصحافة وغير ذلك من كوارث حكم الحزب الواحد.
لم ألتق مع هيكل أو غالى قط، ولكننى كنت أحبهما مثل ملايين المصريين، ويطمئننى وجودهما، وتثير كلماتهما المطبوعة والشفاهية عقلى وخيالى دائماً حتى لو دافع هيكل عن القذافى أو دافع غالى عن هيلا سلاسى!.. أما قديس الأدب علاء الديب فقد كان من أقرب أبناء جيلى إلى نفسى وروحى وإن اقتصرت أحادثينا فى السنوات الأخيرة على المكالمات التليفونية بعد أن اعتزل الحياة العامة أو كاد، وهو شقيق أستاذى بدر الديب الذى رحل قبله بسنوات، ودور الأخوين بدر وعلاء فى الثقافة المصرية المعاصرة كبير ولا يتسع المجال هنا للحديث عنه بالتفصيل.
لقد فقدت مصر هذه الأعمدة الثلاثة، ولكن الأعمدة لا تنهار مع غياب أصحابها، وإنما تبقى فى صرح مصر العظيم.