«حياة مليئة بالمعاناة.. لا تخلو من المشكلات والمضايقات البشرية.. وأيام بطعم الألم.. تمر عليهم بصورة تزداد وطأتها مع كل حركة زيادة يشهدها مؤشر أسعار السلع، مقصودة كانت أم غير ذلك».. تلك التى يعيش فيها الآلاف من العاملين فى أسطول الهيئة العامة لنقل الركاب بالمحافظة منذ فترة طويلة، وسط عدد من النداءات والاستغاثات الصادرة عنهم، التى سُـرْعَان ما يخبو تأثيرها وينطفئ فى ظل استمرار ما وصفوه بتجاهل المسؤولين فى المدينة والهيئة لمطالبهم.
هؤلاء العمال أصبحوا– بحسب تعبيرهم- مجرد فئة من فئات الطبقة الكادحة أو المطحونة كما يطلق عليها البعض.. همومهم لا تنتهى.. يدفعون ثمن ما يُسمُونَه «الفتات»، الذى يحصلون عليه فى نهاية كل شهر من أجسادهم وأعصابهم، التى تظل «مشدودة» وعلى أهبة الاستعداد طوال أيام العمل.
فى البداية قال سعيد عبادى، مشرف بترام المدينة: إن الرواتب التى يحصل عليها غالبية العاملين فى الهيئة، خاصة الذين يعملون فى الجهاز الإشرافى تعد من أسوأ الرواتب التى تحصل عليها الفئات العاملة على مستوى الدولة بأكملها وليس المحافظة فقط.
وأضاف: «بقالى 30 سنة خدمة فى الهيئة ولما ترقيت إلى مفتش انخفض راتبى بعدما حُذِفت منه حوافز وبدلات الإيراد، مع أنه من المفروض أن يحدث العكس، وهذا هو السبب الذى جعل كثيراً من العاملين يرفضون الترقية إلى مفتشين، خصوصاً فى ظل الظروف الصعبة اللى بنعيشها اليومين دول».
وأوضح «عبادى» أن ضعف رواتب الجهاز الإشرافى، تسبب فى عدم انتظام مواعيد السيارات فى كثير من الأماكن، مما أدى– بحسب قوله– إلى استمرار وتزايد شكاوى المواطنين من سوء الخدمة فى بعض الأحيان، وسوء معاملة السائقين والمحصلين لهم فى أحيان أخرى.
وانتقد رمضان أحمد، سائق الترام، ضعف خدمات الرعاية الطبية والصحية المقدمة للعاملين، التى تضطر كثيراً منهم إلى تحمل جميع نفقات العلاج أو العمليات التى يجرونها، لأن الهيئة مش بتتحمل حاجة من تكاليفها.
وطالب مصطفى عبدالغفار، سائق ترام، بإنشاء صندوق زمالة مُشَهر وشبيه بنظام التأمينات، تتولى الهيئة الإشراف عليه وليس النقابة أو الرابطة– بحسب قوله– بحيث يتم خصم اشتراكه من رواتب العاملين، حتى لا تتحمل الهيئة شيئاً منها، مما سيسهم فى مساعدة العاملين، الذين تنتهى مدة خدمتهم، على استكمال حياتهم دون مشكلات.
وتساءل «عبدالغفار»: «لماذا لا تتولى المحافظة ممثلة فى الهيئة تدعيم صناديق الزمالة والتضامن، التى تساعد العمال على أمور المعيشة؟ ولماذا لا يتم تخصيص جزء من قيمة التذكرة لصالح هذه الصناديق، التى تعانى قلة الموارد؟!».
وشدد على ضرورة قيام مسؤولى الهيئة بإصدار قرار يحظر خصم نسبة من الراتب لصالح تدعيم نادى الترام التابع لها نظراً لأنهم– بحسب تعبيره- لا يستفيدون من خدماته ولا يذهبون إليه نهائياً طوال العام.
وقال أحد سائقى ترام الرمل– طلب عدم نشر اسمه- بنبرة اعتصرها إحساس شديد بالغضب: «كل الناس درجات وإحنا الدرجة اللى تحت خالص، والدليل على أن رواتبنا مش كويسة هو أننا نلجأ إلى الاقتراض من بعض قبل ما يعدى علينا نصف الشهر».
وأضاف عقب صمت دام لحظات: «عندى 3 أولاد فى مراحل تعليمية مختلفة، وراتبى الأساسى 500 جنيه، وبالحوافز والبدلات وبعد الاستقطاعات وخصم القروض بيصل إلى 1000 جنيه، وده طبعاً مبيكفيش الأسبوع الأول من الشهر، وبيخلينى أستلف وأسحب قروض علشان أقدر أصرف عليهم». وتابع: «زمان كانت تذكرة الترام بـ 5 قروش، وكانت رواتبنا أحسن من دلوقتى، كأننا كنا شغالين فى الكويت، ولمًا زاد سعرها لـ 25 قرشاً الرواتب انخفضت والراكب هرب من الهيئة، خصوصاً أن الخدمة المقدمة الآن مش زى الأول». واعتبر نبيل جابر، أحد سائقى الأتوبيسات، ضعف موقف الهيئة وعدم اتخاذها لإجراء حاسم– بحسب قوله- تجاه المشكلات التى تنشأ بين العاملين فيها، والعاملين فى جهات أخرى بالمحافظة، سبباً رئيسياً فى شعور عدم الانتماء المسيطر عليهم منذ عدة سنوات.
وقال «جابر»: «العامل فى الهيئة الآن لم يعد له قيمة أو كيان داخل أقسام الشرطة كما كان فى السابق، والدليل على ذلك المعاملة السيئة التى نراها من رجال الشرطة، رغم أنهم كانوا حبايبنا وبيركبوا معانا كل يوم».
مخاوف كثيرة انتابت العاملين خلال السنوات الماضية، نتيجة استمرار تحرشات ما وصفوهم بأنهم مجموعة من البلطجية داخل مركبات الهيئة بصفة مستمرة، ما دفعهم إلى المطالبة بإنشاء شرطة خاصة بالمواصلات، تتولى حماية السائقين والمحصلين من مضايقات واعتداءات الركاب والباعة الجائلين– على حد سواء.
وقال أحد محصلى الأتوبيسات– طلب عدم نشر اسمه– «إنهم أصبحوا يتعرضون لكثير من المضايقات والمواقف التى تشكل خطورة على حياتهم طوال أيام العمل، نظرا لعدم وجود حماية أمنية لهم من هذه المواقف والتحرشات– وفق تعبيره».
ووصف حمدى الشيخ، سائق، دور النقابة بأنه «غير مؤثر» و«محدود»، لأن لهم– بحسب زعمه - خطوطاً معينة تحددها لهم إدارة الهيئة، بحيث لا يستطيعون السير بعيداً عنها، خاصة فيما يتعلق بدعم مطالبهم ومساعدتهم فى الحصول على حقوقهم، التى أصبحت مهضومة من قبل مسؤولى الهيئة– وفق تعبيره.
وانتقد «الشيخ» غياب الحماية الأمنية للعاملين داخل سيارت الهيئة وعربات الترام، خاصة فى أعقاب قرارات الهيئة وتعليماتها بشأن ضرورة حظر التدخين داخل المركبات، ومنع الباعة الجائلين من الصعود على متنها، دون قيام الهيئة بتوفير الآليات اللازمة لتنفيذ هذه القرارات.
وأضاف: «مشكلة المدخنين والباعة الجائلين لسه موجودة لغاية دلوقتى، ولسه بنتعرض بصورة دائمة لتحرشات واعتداءات من جانب الركاب إذا ما حاولنا منعهم من التدخين داخل السيارات، وفى أحيان أخرى يتم الاعتداء علينا من قبل الباعة المسجلين خطراً».
وبرر «الشيخ» استمرار مضايقات الركاب واعتدائهم على بعض المحصلين والسائقين قائلاً: «الناس دلوقتى بقت مخنوقة من الحكومة، بسبب الظروف الصعبة اللى عايشين فيها، لدرجة إنهم شايفين إننا بنمثل الحكومة وعلشان كده بيحاولوا يخلصوا فينا القديم والجديد، رغم أننا غلابة مثلهم».
غداً فى الحلقة الثالثة «إسكندرية اليوم» تحاور جابر عبده رئيس النقابة.
رئيس اتحاد عمال المحافظة: ارتفاع الأسعار وراء شكاوى عمال «الهيئة».. وزيادة « أساسى الأجر» هو الحل
أرجع فتحى عبد اللطيف، رئيس اتحاد عمال المحافظة، استمرار شكاوى العاملين بالهيئة العامة لنقل الركاب فى المدينة، إلى ارتفاع أسعار السلع والمنتجات بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية، ما أدى– حسب قوله – إلى التأثير المباشر على الأوضاع والظروف الحياتية والمعيشية لطبقة العمال.
قال «عبداللطيف» فى تصريحات لـ«إسكندرية اليوم»: «إن موقف الاتحاد من مطالب عمال الهيئة ثابت ولن يتغير وإنه لابد من إيجاد حل جذرى لهذه المشكلة، إما بتعديل أساس الأجور وزيادته أو وضع ضوابط تسهم فى العمل على استقرار الأسعار فى الأسواق بإشراف كامل من أجهزة التموين فى مختلف المحافظات.
وأضاف: «عدد العاملين فى هذه الهيئة ضخم، ومن المفروض أن تساند إدارتها هؤلاء العمال، وتقف إلى جوارهم من خلال تحسين أوضاعهم، ونحن بدورنا كاتحاد على استعداد تام لمساعدتها فى هذه العملية، لرغبتنا فى الحفاظ على استقرارها، خاصة أنها إحدى الهيئات الناجحة فى المحافظة».
وتابع: «مفيش خطوط حمراء تمنع الاتحاد من الدفاع عن حقوق العمال الذين نمثلهم، إلا ما يتعلق منها بالأجور وساعات العمل ونظام التأمين الصحى». وحذر رئيس اتحاد عمال المحافظة من خطورة استمرار تطبيق نظام «السوق الحرة» فى الاقتصاد المصرى بالصورة الحالية التى هو عليها، دون الالتزام بالضوابط والآليات المفترض تنفيذها من خلاله، والتى تساعد– بحسب تعبيره– على إعطاء كل ذى حق حقه.
مش كل من قال «اللى عاوز ياكل حاجة حلوة» يبقى عم «عبدالله»
بزيه المشابه لما يرتديه العاملون بهيئة النقل العام، ونظارته الكلاسيكية ذات العدسات الشفافة، وحقيبته الصغيرة المتدلاة من كتفه اليمنى، اعتاد الحاج عبدالله متولى، أقدم بائع متجول فى منطقة الورديان، صعود الترام يوميا والتجول داخله منذ الصباح الباكر، يتفحص من خلال نظرات سريعة وخاطفة جمهور الركاب فى جميع العربات، يحاول اختراق الأجساد المتراصة أمامه فى رشاقة تساعده عليها ضآلة حجمه ونحافته، فى محاولة منه للوصول إلى مبتغاه وعرض بضاعته على أحد الوجوه الجديدة التى يراها للمرة الأولى داخل الترام.
للوهلة الأولى التى يطل فيها عم «عبدالله» بهيئته تلك عليك أثناء جلوسك أو وقوفك داخل إحدى عربات خط ترام الورديان، تختلط عليك الأمور فجأة لدرجة تكاد تجعلك تعتقد أنه أحد المفتشين أو المحصلين التابعين للهيئة، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما يزول تأثيره بمجرد بدئه فى عرض بضاعته المكونة من مجموعة من الكتب التعليمية والدينية على الركاب.
عم «عبد الله» الذى تخطى العقد السابع من عمره بسنوات تعلم أصول مهنة البائع المتجول بصفة خاصة والتجارة بصفة عامة على أيدى التجار اليهود والأرمن، الذين كانوا يعيشون فى المدينة آنذاك، حيث يتذكر تلك الأيام قائلاً: «والدى كان موظفا بمصلحة الجمارك واهتم بتعليمى حتى حصلت على درجة البكالوريا، وقام بعدها بتوظيفى فى نفس الشركة التى يعمل بها، وكنت أعمل بائعاً متجولاً فى نفس الوقت نتيجة ما تعلمته من خلال احتكاكى بهؤلاء الأجانب». وأضاف «عبدالله»، عقب نظرة خاطفة لما يحدث حوله: «بعد تصفية الشركة فى بداية الخمسينيات التحقت بالعمل فى السكة الحديد، وتزوجت وربنا رزقنى بثلاثة أولاد، قمت بتربيتهم على الأدب والاحترام والأخلاق، وكنت لسه متعود على بيع الميداليات والقصافات فى الأسواق وساعات لزملائى فى الشغل، ومن يومها بدأت شهرتى فى التزايد بين أهالى المنطقة».
ويحكى «عم عبدالله» عن سبب شهرته فى الورديان ومدى ارتباط تلك الشهرة بأحد نداءاته الشهيرة التى يعرفه الجمهور من خلالها، قائلاً: منذ 20 عاماً كنت أبيع حلوى جوز الهند داخل الترام، وكان ندائى عليها بجملة مازالت محفورة فى أذهان جميع سكان المنطقة يعرفها الصغير قبل الكبير، وهى جملة «اللى عاوز ياكل حاجة حلوة» التى اشتهرت بها، والتى جعلتنى محبوباً من جميع الناس حتى داخل أقسام الشرطة. يداوم عم «عبدالله» على قراءة الصحف ومتابعة البرامج التليفزيونية منذ صغره، خاصة برامج الشيخين «الشعراوى» ومحمد الراوى والداعية محمود عطية، لسلاسة آدائهم وطريقتهم فى التفسير.
خمسة أصناف من الكتب يحملها خلال جولاته اليومية على ركاب الترام، بدءاً بكتب الحضانة وكتب تعليم القراءة والكتابة والكتب الدينية وكتب الرياضيات وكتب تعلم اللغة الإنجليزية. قال عنها: «اخترت هذه النوعيات، لأنها أساس العلم فى كل مكان وزمان دلوقتى».
ثلاثة أماكن فقط فى منطقة الورديان الشعبية.. تلك التى تستطيع من خلالها أن تجد عم «عبدالله» إذا ما بحثت عنه فى أحد الأيام، وهى إما منزله أو المسجد أو عربات الترام، حيث أصبح له جمهوره الخاص ومريدوه من جيل الباعة الشباب حيث أصبح «مستشاراً لهم» فى كل شؤون البيع والشراء.. يوجه لمن يرغب منهم النصائح، ويحاول أن يبعدهم عما وصفهم بـ«الدخلاء» على المهنة «لأن البياع دلوقتى بقت شغلة اللى مالوش شغل، وإنه لازم يبقى بلطجى علشان يستمر فيها».
هؤلاء يحملهم «عبدالله» مسؤولية خراب المهنة، ويصفهم بأنهم «غزو» قضى على القواعد والأصول التى يسير عليها وحولها إلى مهنة تستقطب «النصابين والبلطجية»، وأكد عبدالله أنه يحمل رخصة بائع متجول من حى غرب منذ سنوات طويلة، وعندما حاول تجديدها رفضوا ذلك «دون مبررات». وخلال السنوات الطويلة التى قضاها «عبدالله» فى منطقة الورديان، لم يحدث أن تعرض له أحد الركاب بالسوء أو بالإهانة «لأنهم كلهم بيحبونى، وأنا كمان بحبهم علشان هما ناس غلابة وعلى قد حالهم زيى، وأنا كمان بحاول أعلم البياعين الصغيرين الأدب والاحترام علشان لما أموت يفتكرولى حاجة كويسة، خصوصاً أنهم بيقولولى يا بابا».