قبل أن يزور مصر كان مشتاقا لزيارتها ليرى الصورة الجميلة التى قدمتها السينما عن مصر، من خلال الأفلام المصرية التى كانت تعرض فى بلده موريتانيا.. فكر كثيرا فى الأماكن التى سيزورها عندما يسافر إلى مصر، وهل سيجد وقتاً كافياً لزيارة الأهرامات والمتاحف والأزهر الشريف والأقصر وأسوان والاستمتاع بمشاهدة النيل والسهر حتى الصباح فى مقاهى الحسين.
وعندما أتيحت له الفرصة ليحقق ما أراد، فوجئ الشاب الموريتانى «رجل ولد عمر»، وهو مدرس لغة عربية وصحفى فى العشرينيات من العمر، أن كل ما قرأه وسمعه وشاهده عن مصر مغاير تماما لما رآه، فـ«مصر عبدالناصر» و«مصر يوسف شاهين» و«مصر الأزهر الشريف»، ليست هى البلد الذى قضى فيه شهرا كاملا يتسكع بين شوارعه. اكتشف «رجل» أن المصريين طبقتان: طبقة تسكن الفيلات والعمارات الفاخرة، وتركب أحدث موديلات السيارات والملابس، وأخرى تسكن فى الحوارى والأزقة أو فى القبور إلى جوار الموتى، وتقف فى طوابير أمام أفران العيش وعربات الفول، وتركب أتوبيسات النقل العام، وتجلس على المقاهى الشعبية، وتفترش الأرض للبيع والنوم معا.
وبلهجة مصرية اتهم «رجل» المصريين بالمجاملة، والمبالغة فى استخدام الألقاب مثل: «بيه، أفندم، باشا، كبير، برنس» وهى ألقاب لم يسمعها سوى فى مصر، فعندما يدخل السوق ويعرف البائعون أنه أجنبى يمطرونه بكلمات «يا بيه، يا باشا»، ويجعلونه يتوهم أنه ذو قيمة. ويذكر «رجل» أن أحد الصحفيين أفهمه أن سبب هذه الظاهرة يرجع إلى الحكم العثمانى الذى اشتهر بهذه التقسيمات، لكنه يرى أن المصريين «كبروها وزودوها وظبطوها».
القاهرة - كما يراها «رجل» - هى عاصمة المتناقضات، فهناك من يعيشون فى العمارات الشاهقة ومن يعيش على السطوح، وهناك من يأكل وجبات الفراخ واللحم، وهناك من لا يأكل إلا الفول والطعمية. ولم يغب عن ذاكرة «رجل» مشهد المواطنين الذين شاهدهم يأكلون الفضلات الملقاة على جانبى الطريق، واندهش أن تكون مدافن الموتى معيشة للأحياء، معتبرا هذا المشهد لا يليق بالقاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية.
«يوسف القرضاوى» واحد من الأسماء التى استطاعت أن تجذر نفسها فى ذاكرة المجتمع الموريتانى، وفى السينما والتليفزيون يعتبر نور الشريف نجماً مخضرماً ولديه شعبية عريضة، فى حين يتربع على عرش الغناء أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، ويحتل هانى شاكر وتامر حسنى الشعبية الأوسع بين الشباب، وفى مجال الإعلام تأتى الصدارة للصحفى والمؤرخ محمد حسنين هيكل.
واندهش «رجل» من الوضع السياسى فى مصر، واحتكار السلطة من جانب النظام الحاكم، واصفا هذه الحالة بأنها غير صحية لمجتمع يمثل واحدا من أهم العناصر الحيوية فى المنظومة العربية، واصفا ما يحدث بـ«الانسداد الداخلى» و«الاحتباس السياسى»، الذى يبعد مصر عن دورها الريادى الذى تقوم به فى المنطقة.
يحكى «رجل» أنه ذات مساء كان يتسكع فى شوارع العتبة، لكنه توقف أمام تمثال «إبراهيم باشا» الذى ينطق بالتاريخ، وحزَّ فى نفسيته تراكمات التراب والأوساخ على التمثال، وكأنه فى صحراء، حينها جالت بخاطره فكرة تنظيف التمثال مع مجموعة من الشباب المصريين، لكن ظروف سفره إلى موريتانيا حالت دون ذلك.
ومن المواقف التى تعرض لها «رجل» فى مصر شراؤه «ساعة يد» من أحد البائعين فى السوق المجاورة لمسجد الحسين بـ 200 جنيه، ليكتشف بعدها أن هذه الساعة تباع للمصريين بـ 7 جنيهات فقط، ولا ينسى كذلك أغلب سائقى التاكسى «الانتهازيين» الذين تعامل معهم فى القاهرة، أما أصعب المواقف فكانت المشادة الكلامية بينه وبين موظف شباك التذاكر وأمن الأهرامات، واتهامه لهم بأنهم ليسوا وجهة مشرفة لمصر، بعدما صمموا على أن يدفع تذكرة أجنبى وتبلغ قيمتها 60 جنيها بدلا من التذكرة المخصصة للعرب وقيمتها جنيهان، لأن الموظف ورجال الأمن لم يكونوا على علم بأن موريتانيا بلد عربى.