x

أحمد عبد الله السيد كتابات غير لائقة أحمد عبد الله السيد الأحد 21-02-2016 17:16


أحب أن أتصوَّر أنه منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، دخل أبي- رحمه الله- السينما ليشاهد أحد أفلام يوسف شاهين. والدي، الذي كان رجلًا محافظًا بطبعه، لا أظنُّه قد راقه كثيرًا أن يرى الراحل نور الشريف وهو يطلق صوتًا من منخاره احتجاجًا على ما قاله محمد منير شريكه في مشهد بالفيلم. أتخيَّل، من معرفتي العميقة بأبي، أنَّه تضايق جدًا من الصوت الذي يعتبَر في مجتمعنا لفظًا نابيًا جدًا. لكنني، ومن معرفتي به أيضًا، أدرك أنه لم يخطر بباله، وبعدما خرج متذمرًا من القاعة، أن يتَّجه إلى مكتب النائب العام لتقديم بلاغ ضد صناع الفيلم، أو ضد نور الشريف.

الآن، وقد رحل يوسف شاهين ونور الشريف، ومعهما أبي، أتذكَّر الأخير بالخير كثيرًا، وأنا أقف مرتبكًا وسط أحد المحال العملاقة مع أصدقائي حيث نحاول شراء بطانية صغيرة وبضعة ملابس تحمي من برد السجن، لندخلها لروائي صديق سُلبت حريته في لحظة بسبب لفظ جنسي نشره، هو الكاتب أحمد ناجي.

لقد قرأ مواطن فصلًا من رواية ناجي في مجلَّة أدبيّة هي «أخبار الأدب»، فشعر أن أخلاقه وتقاليده المجتمعية قد أُهينت، ولم يجد مفرًا «لحماية نفسه» من أن يتقدم ببلاغ للنائب العام ليطالب بحبس الروائي. ثمّ وجدَت النيابة لاحقًا أنّ مطلب المواطن مطلب معقول، فأُرهق الروائي ليجد نفسه متهما في القضيّة بين النيابات والمحاكم لشهور، قبل أن يجد ناجي نفسه محكومًا عليه بالسجن لمدة عامين.

السجن شاق جدًا، ليس فقط لأنَّنا في مصر، أو لأنّنا نعلم المهانة التي يتعرض لها السجين أيًّا كانت فعلته، بل ببساطة لأنه يقوم على مبدأ سلب الحرية. وفي ظنّي أنّ هذه الحريّة هي أثمن ما نملكه. هذه الحرية قد نصَّ عليها دستورنا الذي وافق عليه الأغلبيّة المصوِّتة من الشعب المصري، والذي يجزم في مادة من مواده «ألا توقَع عقوبة سالبة للحرية في (الجرائم) التي ترتكَب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي». وفي حالة قضيّة ناجي، نحن أمام منتج أدبي هو روايته، وإن اعتبر البعض أنَّ ما تحتويه هو «جريمة»، وطالبوا بعقوبة الحبس. ونزعوا عنها صفتها الأدبية لابتسار كلمات على لسان بطلها، لكن تظل حقيقة الوضع: هي رواية، منتج أدبي.

البعض لا يؤمن بحرية التعبير إلا عندما تعبِّر عما يُحب، فيرى أن استخدام ألفاظ جنسية في عمل أدبي هو أمر غير لائق وربَّما جريمة في حد ذاتها، ولا يجد حرجًا من المطالبة بزجّ الكتَّاب في السجون لكتم هذا النوع من التعبير وإن كان يسمعه في شوارع مدينته طوال اليوم. هذه فكرة لا يمكن لعقلي أن يستسيغها أبدًا، وقد تجاوزتها الأمم من عقود، باستثناءات قليلة كنت أرى مصر قد تتعفف من أن تكون بينها، ولم أود أن أشهد معاملة المؤلفين والكتاب والفنانين كما في دول لم نكن نحب أن نتشبه بها، لكن للأسف، هذا هو الوضع الآن، والتوسع في عقوبات الحبس بات غير مسبوق، وكأن «الإنسانية» ارتأت فجأة أنَّ حرمان شخص من نور النهار، ومن دفء فراشه، ومن وجوده بين أصدقائه وأحبائه وأهله، ومن مشاريعه وأحلامه، ومن أيامه وسنوات عمره، هو عقاب مقبول ومستساغ لأفعال لم يرضَ عنها جزء من المجتمع.

وقد يردِّد الكثيرون مرارا وتكرارا: «وهو ده أدب؟ وهي الشتيمة دي لازم نحترمها؟ ده بورنو!»، إلى آخر ذلك من وجهة النظر المعروفة، وأجد نفسي أكرِّر أيضا أنَّ رأينا الشخصي في عمل مكتوب أو مُمثَل أو مسموع لا يجب أن يتجاوز حدود الرأي، لأنّ ما «ارتكبه» المؤلف لم يتجاوز حدود الرأي بدوره. هذه طبيعة الأشياء. ولكل مقام مقاله.

لقد قرّر أحمد ناجي التجريب في رواياته محاولاً ألا يستخدم الألفاظ العربية المعهودة المتوارية لوصف الجنس، ففضَّل استخدام مفردات متداولة يوميًا، وأكثر شيوعًا في حياتنا. وناجي مقتنع أن استخدام مثل هذه الألفاظ الحالية هو إرثنا الثقافي لكلمات قديمة تداولناها في تراثنا الأدبي والعربي بل والديني أيضًا، هذا رأيه وأساس من أساسات مشروعه الأدبي. في مجتمعات أخرى، قد يتحول مثل هذا السجال لشأن ثقافي يفتح للنقاش العام، وتؤخَذ من ناجي آراؤه ويُردُّ عليها. وقد يحدث، في ظل هذا النقاش، إثراء ما للثقافة المصرية والعربية ككل. هكذا أفهم الفن والأدب، وهكذا أعرف تمسك الشعب المصري بحبه غير المشروط للفن، واعتباره له جزءًا من تراثه وفكره وحياته اليومية منذ سنوات طوبلة بشكل يندر أن تجده في تاريخ بلدان أخرى.

ويمكن لفهم أقرب العودة لما كتبه أحمد ناجي نفسه في إحدى مقالاته:

«للكلمات البذيئة حلاوة على اللسان، وطاقة يدركها الجميع، لذلك عند الغضب تخرج تلك الكلمات لا إراديًا من فم الجميع. حُجبت هذه الكلمات ونُبذَت من الأدب العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن. بدواعي الحشمة وبدواعي ظهور طبقة برجوازية مُتمدنة ومتعلمة مع مشروع التحديث العربي وأرادت هذه الطبقة التي درست للمرة الأولى في جامعات علمانية أن تخلق لنفسها لغة تستخدمها في الإعلام والأدب تميزها عن الطبقات الأدنى، وتضعها في قطيعة مع التراث الذي تحاول أحياناً التملص منه أو التوفيق بينه وبين متطلبات الحداثة.

الأدب هو مساحة الخيال وأرض اللاوعي. ينسى الجميع دراما الروايات، لكنهم يتذكرون مشاهد وجملاً، وأحيانًا تتسبب روايات في أن تغير وجهة نظرك للعالم ولنفسك وللغة. من خلال إثارة الشك فيما تعرفه وفيما وجدت عليه آباءك، من خلال خدش القشرة الخارجية لما يقولون إنها أخلاق وآداب. من خلال استطعام ذلك الطعم السكري للألفاظ المنبوذة والممنوعة».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية